مُكَافَحَةُ الْفَسَادِ الْخَارِجِيِّ أَمَرِيكِيًّا / أحمد عبد الله المصطفى

1 ـ نُبْذَة؛ يَرَى خبراء مكافحة الفساد أن القانون الفيدرالي الأمريكي المتعلق بمكافحة ممارسات الفساد الأجنبية Foreign Corrupt Practices Act (FCPA) من القوانين الوطنية الرائدة في مجال مكافحة ممارسات الفساد التي يرتكبها أشخاص أو شركات كبرى في دول أجنبية..

وقد أقر الكونكرس الأمريكي هذا القانون سنة 1977، وهو قانون جنائي، ينطبق على الأشخاص الطبيعيين الأمريكيين، وعلى الشركات الأمريكية، والشركات الأجنبية المدرجة أسهمها في أسواق المال الأمريكية، ومديروها التنفيذيون..
ينص قانون  (FCPA)على تجريم ومعاقبة ممارسات مختلفة متعلقة بالفساد، حتى إذا ارتكبت في دول أجنبية، وعلى وجه الخصوص ينص القانون على تجريم دفع أو عرض أو الوعد بدفع مبالغ إلى مسؤولين أجانب من أجل الفوز بمناقصات، أو الحصول على صفقات، أو أعمال، سواء كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، بما في ذلك المجاملات والهدايا القَيِّمة، أو نفقات الضيافة المبالغ فيها..
تُشرف وزارة العدل الأمريكية، ووكالات إنفاذ القانون في الولايات المتحدة على تطبيق هذا القانون من خلال القضاء الأمركي..
وعلى أساسه فُتحت تحقيقات كثيرة ضد أشخاص وشركات أمريكية وأجنبية عديدة خلال السنوات الثماني والثلاثين الماضية، بتهم تتعلق بالفساد في أنحاء مختلفة من العالم..
يختلف قانون  (FCPA)عن قانون أمريكي آخر يعرف بقانون (Dodd - FraNK) الذي هو قانون جديد صادر سنة 2010 عقب الأزمة المالية التي اكتسحت الأسواق الأمريكية والعالمية (2007 ـ 2008)، ويهدف إلى إصلاح "وول ستريت ـ Wall Street"، وحماية المستهلك..
التحقيقات التي تجري في الولايات المتحدة الأمريكية على أساس شُبَهٍ تتعلق بالفساد الخارجي تتم طبقا لقانون  (FCPA)مع أنها يمكن أن تترافق مع إجراءات أخرى تتم بالإستناد إلى قانون (Dodd - FraNk)، الذي يُلزم الشركات الخاضعة له بتقديم تقارير مفصلة إلى هيئة السندات والأوراق المالية حول ما تدفعه للحكومة الأمريكية، والحكومات الأخرى، على أساس كل دولة على حدة، وعن جميع عملياتها بواقع كل عملية على حدة، مع مستندات كل ذلك، ومن خلال تلك التقارير والمستندات يمكن للهيئة مساءلة الشركات في قضايا تتعلق بمخالفة مقتضيات الشفافية..
يعتمد قانون  (FCPA)آلية موجودة في قوانين أمريكية أخرى، تدعى "كاشف الفساد"، وتعني السماح للأشخاص في الداخل أو الخارج بالتبليغ عن الأفعال المشبوهة، ويمكن أن يكون كاشفوا الفساد هؤلاء من موظفي الشركات أو من خارجها كالعاملين في منظمات مكافحة الفساد، أو الصحفيين، أو غيرهم، مع إجراءات تكفل حماية هؤلاء الأشخاص، وسرية تبليغاتهم ..
ومع أنه يُفترض في "كاشف الفساد" أن تكون دواعيه في ذلك هي الولاء للشفافية، إلا أن القانون الأمريكي يقر له الحصول على تعويض مناسب عند الاستفادة قانونيا من المعلومات التي قدمها، وبعضُ القضايا التي أثيرت ضد شركات أجنبية كانت بناء على تبليغات "كاشفي الفساد"..
يُقِرُّ قانون  (FCPA)كذلك آلية قانونية أخرى تميزه عن قوانين مماثلة عديدة، وتُعرف هذه الآلية بـ "اتفاق المحاكمة المؤجلة"، تسمح للشركات المُدَّعَى عليها بعد إقرارها بالذنب بدفع غرامة مالية، يتم تقديرها تبعا لقيمة الرشاوى المدفوعة المتحقق منها، وقبول تعيين شخص مستقل يتابع ملاءمة الشركة لأنشطتها مع مقتضيات القانون الأمريكي، ومراقبة مدى التزامها ببنود "اتفاق المحاكمة المؤجلة" لفترة معينة، وذلك مقابل وقف المحاكمة، وتجنيب الشركة تكاليف أكبر، وإمكانية الإنهيار بسبب المتابعة القضائية..
كَثِيرٌ من القضايا التي فتحت فيها تحقيقات قضائية أمريكية ضد شركات أجنبية على أساس القانون المذكور تمت تسويتها وفق آلية "اتفاق المحاكمة المؤجلة"..
واقتصرت التحقيقات دائما على الشركات، ومسؤوليها التنفيذيين دون التعرض للمسؤولين في الدول الأخرى الذين تلقوا العروض أو الرشاوى..
2 ـ وَقَائِع؛ 
تُوجد وقائع متعددة تمثل قضايا فُتحت في إطارها تحقيقات من طرف وزارة العدل الأمريكية على أساس قانون  (FCPA)ضد شركات أجنبية بِشُبَهِ الفساد، وسأقتصر على ذكر ثلاث وقائع تخص شركات فرنسية كبرى، تمهيدا للنقطة الأخيرة المتعلقة بالمقارنة..
أـ قضية شركة "تكنيب": وهي شركة فرنسية عالمية متخصصة في المقاولات الهندسية والتشييد والخدمات، تُتَدَاول أسهمها في السوق الأمريكية، وقد فَتحت وزارة العدل الأمريكية تحقيقا ضدها طبقا لقانون مكافحة ممارسات الفساد الخارجي، لمشاركتها في مخطط دام عشر سنوات دفعت في إطاره رشاوى من أجل الحصول على عقود التصميم والتوريد والإنشاء لمشروع الغاز الطبيعي المسال في جزيرة "بوني" النيجيرية..
وفي يونيو 2010 وقعت الشركة مع وزارة العدل الأمريكية على "اتفاق المحاكمة المؤجلة" طبقا لقانون مكافحة ممارسات الفساد الخارجي، وبموجبه اعترفت بالأفعال موضوع التحقيق، ودفعت غرامة مالية بقيمة 240 مليون دولار كعقوبة جنائية..
ب ـ قضية شركة "توتال": وهي شركة النفط الفرنسية العملاقة المعروفة، وابتداء من سنة 2003 فتحت المصالح الأمريكية المختصة تحقيقا ضدها، طبقا لقانون مكافحة ممارسات الفساد الخارجي، على أساس دفعها لرشاوى منذ سنة 1995 عند ما أرادت الشركة الدخول مجددا إلى السوق النفطية الإيرانية..
وطبقا للتحقيقات الأمريكية فإن "توتال" دفعت في منسابات مختلفة مبالغ مالية معتبرة كرشاوى من أجل الفوز بصفقات في السوق الإيرانية، منها مبلغ يتعلق بالفوز بصفقة تطوير حقل "بارس" الجنوبي الأكبر في العالم، وأن تلك المبالغ التي كانت في الواقع رشاوى، ظهرت في سجلات الشركة تحت بند "مصاريف لتطوير الأعمال"..
وفي مايو 2013 وافقت "توتال" على اللجوء إلى آلية "اتفاق المحاكمة المؤجلة" فأعترفت بالذنب، طبقا للقانون الأمريكي، ودفعت غرامة جنائية بقيمة 398 مليون دولار لخزانة وزارة العدل الأمريكية، وبموجب ذلك أغلقت الدعوى الأمريكية ضد الشركة بالموافقة على تعليق ثلاث تهم جنائية تتعلق بالقضية.   
ج ـ قضية شركة "آلتسوم": عملاق الصناعات الهندسية الفرنسية التي تنشط في مجال السكك الحديدية، والطاقة، وقد وافقت هذه الشركة في سنة 2014 على دفع غرامة جنائية ضخمة للسلطات الأمريكية بقيمة 772 مليون دولار، من أجل وقف تهم جنائية ضدها بموجب "اتفاق تأجيل المحاكمة" طبقا لقانون مكافحة ممارسات الفساد الخارجي، إثر تحقيق يتعلق بدفعها لرشاوى كبيرة في دول مختلفة من العالم من بينها أندنوسيا، ودول عربية..
واعْتُبِرت الغرامة التي دفعتها الشركة أكبر غرامة في تاريخ قانون مكافحة الفساد الخارجي في الولايات المتحدة، ورأت وزارة العدل الأمريكية أن مخطط الشركة كان مذهلا في اتساعه وجرأته، وعواقبه على مستوى العالم، وبينت أن بعض الرشاوى التي دفعتها ظهر في سجلاتها على صورة مبالغ مقدمة لأشخاص بأسماء مستعارة..
3 ـ مُقَارَنَة؛
قَرَأْتُ يوم الأربعاء الماضي 14 أكتوبر الجاري مقالا نشرته صحيفة "إيلاف" الرقمية التي تصدر من لدن تحت عنوان: "لماذا فترت همة فرنسا في مكافحة الفساد"، وتعطي المعلومات التي تضمنها مقارنة بين النظام الأمريكي لمكافحة الفساد الخارجي والنظام الفرنسي، أستعرضُ ملامحها العامة، فكثيرا ما استهوت المقارنات القانونيين..
تَضَمَّن المقال إشارة إلى آراء للبعض تدعو فرنسا لـ "أمركة" قوانيها المتعلقة بالفساد، وذلك فيما يبدو من أجل التعامل بفعالية مع عمليات الفساد التي يرتكبها أشخاص فرنسيون، أو شركات فرنسية في الخارج أسوة بالقانون الأمريكي..
ويبدو أنه على الرغم من مضي 19 سنة على دخول اتفاقية منع الفساد حيز التنفيذ لم تحاسب فرنسا أيا من شركاتها العاملة في الخارج جراء عمليات فساد رغم قيام القضاء الأمريكي بمحاسبة شركات فرنسية على الوجه المتقدم، مع أن فرنسا كانت رائدة في مرحلة المفاوضات حول الاتفاقية المذكورة..
لقد اقتصرت المتابعات الفرنسية في قضايا الفساد الخارجي على حالات قليلة شملت سبعة أشخاص طبيعيين، وكانت أعلى الغرامات فيها بقيمة 20 ألف يورو، أمَّا أهم إدانة صدرت بمجهود فرنسي ضد إحدى الشركات فقد الغتها محكمة الاستئناف..
وما تزال تقارير المنظمة الأوروبية للتنمية والتعاون الاقتصادي تنتقد جهود فرنسا في مجال مكافحة الفساد الخارجي..
وفيما يُفهم أنه تعليق على الفرق بين القانون الأمريكي والفرنسي، نقل المقال عن مدير الفرع الفرنسي لمنظمة الشفافية الدولية قوله: "إنه لأمر مهين بالنسبة لفرنسا أن لا يكون نظامها القضائي قادرا على أداء هذه المهمات بنفسه"..   
ونقل المقال أيضا عن أحد أعضاء منظمة "تريس الدولية" وهي جمعية مختصة بمكافحة الفساد مقرها الولايات المتحدة الأمريكية قوله: "القانون الموجود في فرنسا كاف جدا، وأفضل بعدة أوجه من قوانين دول أخرى ضمنها الولايات المتحدة الأمريكية، غير أن القضية لا تتعلق بالقانون بل بانعدام الإرادة السياسية لدى الجهات المسؤولة عن فرض القانون، وانعدام الموارد المالية وقلة الكوادر، وضعف الخبرة والدراية"..
ويُذكر أن القانون الفرنسي لا يتضمن مقتضيات تسمح باللجوء إلى آلية "اتفاق المحاكمة المؤجلة" الموجود في القانون الأمريكي، حيث تسمح هذه الآلية بحماية الشركات من الإنهيار مع فرض عقوبات مالية عليها، وإن كان البعض ينتقد هذه الآلية لما تتيحه من إمكانية الإفلات من العقاب بالنسبة للمديرين التنفيذيين في الشركات الذين يباشرون عمليات الفساد الخارجية بأنفسهم أو بواسطة أشخاص آخرين..
ويقول مسؤولون فرنسيون إن هيئة مكافحة الفساد الفرنسية الحالية لا تتمتع بالصلاحيات الكافية، ويتعين استبدالها..
ومن هذه المعطيات يمكن القول بأن طرق وآليات مكافحة الفساد في فرنسا تواجه انتقادات متزايدة، وتبدو قاصرة عن ما عليه الحال في الولايات المتحدة، مع وجود دعوات من أجل تطويرها لمواجهة عمليات الفساد الخارجي للشركات الخاضعة للقانون الفرنسي، على نحو ما هو معمول به في الولايات المتحدة الأمريكية.. 

19. أكتوبر 2015 - 0:35

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا