الملاحدة الجدد بين الجهل والضياع الحلقة(36) / المرابط ولد محمد لخديم

 أي بقدر ما يبتعد أفراد المجتمع عن الدين تكون لغة هذا الدين ضعيفة في المجتمع، وأبرز مثال على ذالك ضعف اللغة اللاتينية وتقلصها في أوربا.(125) حينما بدأ نطاق الدين المسيحي في السنوات الأخيرة إلى الإفتاء بجواز إلقاء خطب الوعظ ...باللغات المحلية، التي يفهمها الجمهور ترغيبا

 له في الدين (126) وفي هذه الحالة أيضا نجدنا أمام مثال واضح لتأثير اللغة في الدين, حيث يعمد إليها كوسيلة لنشر الدين، والتبشير به، وترغيب الناس في تعاليمه، ويظهر ذالك في الحملات التبشيرية بالدين المسيحي التي ما انفكت تجوب أقطار العالم، وخاصة إفريقيا، مبلغة  تعاليم المسيح باللغات المحلية، علما بأن هذا إن انطبق على الديانة الإسلامية من حيث أسلوب الدعوة باللغات المحلية فإنه لا ينطبق عليها في تلاوة القرآن باللغات المحلية، أو الدعاء، أو الصلاة. وهذا ما يجعل اللغة العربية أكثر ارتباطا بالإسلام من غيرها من الديانات فما هي هذه العلاقة ؟
علاقة اللغة العربية بالدين الإسلامي:
          إذا كانت للغة علاقة تأثير بالدين السائد في المجتمع.. على النحو الذي حاولنا التدليل عليه فيما سبق .. فإن للغة العربية علاقة خاصة بالدين الإسلامي تتميز بها عن علاقة سائر اللغات في العالم بدياناتها السماوية، أو الوضعية, ويعود السبب الأول لهذه العلاقة إلى نزول القرآن الكريم باللغة العربية، وما نجم عن ذالك من تقديس المسلمين للغة العربية كتقديسهم للقرآن . وتقديس المجتمع لشيء من الأشياء يتطلب بالضرورة فهمه والمحافظة عليه. وهكذا ارتبطت اللغة العربية ارتباطا قويا بالإسلام لأنها مفتاح فهم العقيدة الدينية، ووسيلة المحافظة عليها ما بقي لهذه العقيدة معتنقون في المجتمع. ومهما يكن من أمر فإن اللغة العربية ما كان لها أن تبرح الجزيرة العربية، ولا أن تكتسح الأقطار المجاورة شرقا وغربا، وتنتشر فيها، وتؤثر في لغاتها، أو تحل محلها بالسرعة والكيفية التي عرفها صدر الإسلام، لولا أنها كانت لغة القرآن، ولغة فهم الدين الجديد، فالإسلام كان دفعا جديدا لرقي اللغة العربية وجاء هذا الدفع على يد القرآن نسقا جديدا في التعبير إلى جانب الشعر والنثر، وكان القرآن الرابطة الأقوى بين اللغة والدين، فما يقوله القرآن يصبح القاعدة والمعيار حتى وإن لم يكن للعرب عهد به.
             فالقرآن هو الفيصل في الدين واللغة العربية، وفي ذالك يقول المستشرق الألماني
(يوهان فك): " إن لغة القرآن تختلف اختلافا غير يسير عن لغة الشعراء السائدة في الجزيرة، فلغة القرآن تعرض من حيث هي أثر لغوي صورة فذة لا يدانيها أثر لغوي في العربية على الإطلاق. ففي القرآن لأول مرة في تاريخ اللغة العربية يكشف الستار عن عالم فكري تحت شعار التوحيد، لا تعد لغة الكهنة والعرافين الفنية المسجوعة إلا نموذجا واهيا له من حيث وسائل الأسلوب، ومسالك المجاز في اللفظ والدلالة" (127)
          ولو تتبعنا اللغة العربية في العهد الإسلامي لوجدنا كتاباتها متأثرة في المبنى والمعنى بالقرآن ويليه الحديث، ومن أمثلة الكلمات والتعابير المتداولة في اللغة العربية والتي ترجع في أصلها إلى القرآن: (العروة الوثقى. سنة الله. مثقال ذرة. أسوة حسنة. المثل الأعلى. بكرة وأصيلا. لا يكلف الله نفسا إلا وسعها..).
          وإلى جانب القرآن يوجد الحديث الذي ترك آثاره على اللغة العربية أيضا(128)
          فاللغة العربية إذن هي وعاء الثقافة الإسلامية، وهي الأداة المثلى لمعرفة مبادئ الدين الحنيف وفهم أحكامه, وهى اللغة الوحيدة في العالم التي ترتبط بالدين ارتباطا لا انفصام له. فهي لغة الإسلام لأنها لغة القرآن الكريم. ولغة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
        وهذا الارتباط يأتي في أن القرآن الكريم كان له الدور الكبير في توجيه وتطوير وتقويم اللغة العربية فمن أجل ذالك كان لا بد لمن أراد العكوف على دراسة العربية وآدابها من أن يعكف على دراسة القرآن وعلومه، وكلما ابتغى مزيدا من التوسع في العلوم العربية وثقافتها، احتاج إلى مزيد من التوسع في دراساته القرآنية المختلفة. ويلخص البوطي هذه الحاجة وأسبابها في النقاط التالية:
        السبب الأول: أن هذا الكتاب العربي المبين، هو أول كتاب ظهر في تاريخ اللغة العربية(129) وإنما نشأت حركات التدوين والتأليف بعد ذالك على ضوئه وسارت بإشرافه، وتأثرت بوحيه وأسلوبه.
ومن أجل ذالك ، كان مظهرا هاما للحياة العقلية والفكرية والأدبية التي عاشها العرب فيما بعد، فكيف يتأتى أن يكون هذا الكتاب مع ذالك بمعزل عن العربية وعلومها وآدابها؟!..
        السبب الثاني: أن اللغة العربية إنما استقام أمرها على منهج سليم موحد، بسر هذا الكتاب وتأثيره، وهي إنما ضمن لها البقاء والحفظ بسبب ذالك وحده.
         فقد كانت اللغة العربية من قبل عصر القرآن أمشاجا من اللهجات المختلفة المتباعدة، وكان كلما امتد الزمن، ازدادت هذه اللهجات نكرة وبعدا عن بعضها وحسبك أن تعلم أن:
        المعينية، والسبئية، والقتبانية، واللحيانية، والثمودية، والصفوية، والحضرمية، كلها كانت أسماء للهجات عربية مختلفة، ولم يكن اختلاف الواحدة منها عن الأخرى محصورا في طريقة النطق بالكلمة، من ترقيق أو تفخيم أو إمالة أو نحو ذالك, بل ازداد التخالف واشتد إلى أن انتهى إلى الاختلاف في تركيب الكلمة ذاتها وفي الحروف المركبة منها، وفي الإبدال والإعلال والبناء والإعراب.
           فقضاعة مثلا كانت تقلب الباء جيما إذا كانت باء مشددة أو جاءت بعد العين، وكانت العرب تسمي ذالك: عجعجة  قضاعة، ومن ذالك قول شاعرهم:
خالـي عويـف وأبـو علبـــجّ  المطعمــان اللحـم بالعشـــجِّ
وبالغــداة قطــع البرنـــجِّ يؤكـل باللحـم و الصيصـــجّ
             وحمير كانت تنطق ب "أم" بدلا من "أل" المعرفة في صدر الكلمة، وكانت العرب تسمي ذالك طمطمانية حمير.
            ومن ذالك قول أحدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله:أمن أمبر امصيام في أمسفر؟ يريد أن يقول: هل من البر الصيام في السفر؟
          وهذيل كانت تقلب الحاء في كثير من الكلمات عينا، فكانوا يقولون أعلَّ الله العلال بدلا من أحل الله الحلال...
        وهكذا دواليك...
فقد كانت كل قبيلة تختلف في النطق عن الأخرى بوجوه من الاختلافات كثيرة، حتى باعد ذالك بين ألسنة العرب وأوشك أن يحول اللغة الواحدة إلى لغات عدة متجافية لا يتفاهم أهلها ولا يتقارب أصلها.
        ولقد بلغ من تخالف هذه اللهجات وتباعدها، أن كثيرا من وفود هذه القبائل التي أخذت تفد في صدر الإسلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يلقون كلمات وخطب لا يكاد يفهمها القرشيون من أصحابه عليه الصلاة والسلام ولقد قال علي رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سمعه يخاطب بني نهد:
يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لم نفهم أكثره! .. فقال عليه الصلاة والسلام :" أدبني ربي فأحسن تأديبي"(130)
       فلما نزل القرآن، وتسامعت به العرب، وائتلفت عليه قلوبهم، أخذت هذه اللهجات بالتقارب(131) وبدأ مظاهر ما بينها من خلاف تضمحل وتذوب، حتى تلاقت تلك اللهجات كلها في لهجة عربية واحدة ، هي اللهجة القرشية التى نزل بها القرآن وأخذت ألسنة العرب على اختلافهم وتباعد قبائلهم تنطبع بطابع هذه للغة القرآنية الجديدة. فكان ذالك سر هذا الشريان السحري العجيب الذي امتد في أجلها، فاستصلبت وقويت بعد تفكك واتحدت بعد تناثر، ثم مرت على مصرع أعظم لغة عالمية شاملة هي (اللاتينية) بينما تغلي هي حيوية وقوة وإشراقا.
       فكيف تمكن مع ذالك دراسة شيء من أدب هذه اللغة دون دراسة روحها التي تعيش بها وشريانها الذي يمتد فيها وينشأ من أجله.!؟
        السبب الثالث: أن البلاغة والبيان وجمال الكلمة والتعبير.....يتواصل...

10. نوفمبر 2015 - 8:33

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا