على دروب الهجرة / الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

لا تسقني ماء الحياة بذلة       بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنــــم        وجهنم في العز أطيب منزل.

كان العقيد محمد ولد اب ولد عبد القادر مفجر وملهم حركة مقاومة اختطاف وتركيع موريتانيا قد بادر بعد انقلاب 31 مايو واستيلاء بوليزاريو وحلفائها على السلطة في نواكشوط بتقديم 

استقالته من اللجنة العسكرية والحكومة ومغادرة الوطن المقهور، رافعا راية التمرد والمقاومة الوطنية؛ الفعل الذي شبهه الأمير والسفير بكار ولد أحمدو في رسالة مكتوبة بعث بها وبأحد أبنائه إلى العقيد الثائر بهجرة الجنرال ديغول إلى بريطانيا رافعا راية المقاومة باسم فرنسا الحرة لما استسلم المارشال بيتين للنازيين.
ولا غرو، إذ كم سلك أباة الضيم من أحرار موريتانيا دروب الهجرة والمقاومة التي تكون وجهتها غالبا المغرب الشقيق: هجرة الأمير اعلي شنظوره ولد هدي ولد أحمد من دمان، هجرة الأمير سيد أحمد ولد أحمد ولد عيده، هجرة الأمير أحمدو الثاني ولد سيد اعلي، هجرة الأمير سيدي ولد محمد لحبيب، هجرة الأمير محمد فال ولد عمير وآخرين.
وتلبية لنداءالوطن العاني بدأت تتدفق أفواج الأحرار من سياسيين ورجال أعمال وشخصيات وطنية سالكة دروب الهجرة والمقاومة إلى المنافي في السنغال وفرنسا والمغرب؛ لتلتحق براية المقاومة: المصطفى ولد اعبيد الرحمن، محمد عبد الرحمن ولد امين، حابه ولد محمد فال، عبد الرحمن ولد مولود، مالكيف ولد الحسن عبد القادر ولد حماد محمد الحسن ولد لبات يبه ولد البشير وغيرهم... ناهيك عن العسكريين والضباط الأحرار الذين كان من أبرزهم العقيد الأمير أحمد سالم ولد سيدي ولد محمد الحبيب، وانيانغ مصطفى ودودو سك رحمهم الله. ولجميع هؤلاء الأبطال حكايات وقصص نتمنى أن نتمكن من الإحاطة بها ونشرها ذات يوم. وفي انتظار ذلك نكتفي في هذه الذكرى بتقديم هذا النموذج البارز:

هجرة الأمير العقيد أحمد سالم ولد سيدي ولد مُحَمْدْ لحبيب

لم يكن بإمكان أنصار بوليزاريو في اللجنة العسكرية أن يجاهروا بأهدافهم ويمرروا انقلابهم ضد الرئيس أحمد ولد بسيف - رحمه الله- دون المناورة والتلبيس فتظاهروا بالاعتماد على أشرف وأنبل وأشجع الضباط السامين ممن يتمتعون بثقل معتبر في الوسط الاجتماعي وفي الجيش؛ أمثال العقيد محمد محمود ولد لولي الذي أصبح رئيس الدولة، والأمير العقيد أحمد سالم ولد سيدي ولد محمد لحبيب، والعقيد فياه ولد المعيوف بطل حرب الصحراء. لكن أنصار بوليزاريو الذين هيمنوا على السلطة سرعان ما ضاقوا ذرعا بكوابح هؤلاء الضباط الشرفاء ورفضهم للاستسلام، فقاموافي أحد فصول تحالفاتها مع حزب البعث وأشياعه بارتكاب حماقة التخلي عن أولئك الضباط وإخراجهم بصورة مذلة من السلطة، وإحالة كل من الأمير العقيد أحمد سالم ولد سيدي والعقيد فياه ولد المعيوف على التقاعد المبكر. وكانت تصريحات وزير الخارجية البعثي يومها في حق القادة المبعدين مثار تندر وتهكم حين وصفهم بالكتلة الجامدة (Masse inerte).
لم يستسلم الأمير العقيد أحمد سالم ولد مُحَمْدْ لحبيب لإرادة العدو؛ بل امتطى ركاب الإقدام على خطى أجداده الشجعان، وهاجر ليلتحق بحركة التحالف من أجل موريتانيا ديمقراطية AMD ويستلم قيادة جناحها العسكري مع رفيقه في السلاح والسؤدد العقيد محمد ولد ابه ولد عبد القادر رحمهما الله. وكانت أجواء الوطن يومئذ حبلى بعواصف وأنواء التمرد والفداء.
ويروي شهود عيان - من ضمنهم قادة في حزب الكادحين- تفاصيل هجرة الأمير البطل، وكيف ضحى بأهله وولده ثم جاد بنفسه في سبيل حرية وعزة الوطن.
كان الأمير العقيد أحمد سالم ولد سيدي ولد مُحَمْدْ لحبيب فارسا وقائدا شجاعا وعلى خلق عظيم. وكان صديقا حميما للأمير العقيد أحمد ولد بوسيف رحمهما الله، وأحد القادة الثلاثة الذين لا يطمئن إليهم قادة "مشروع العاشر يوليو" (أنصار بوليزاريو) حسب تعبير الرئيس محمد خونه ولد هيداله المفضل في مذكراته. وقد حاولوا استغلاله في تحقيق مشروعهم الانهزامي إلى أبعد الحدود بعد وفاة الرئيس أحمد ولد بوسيف، لحد أنه من وقع اتفاق الجزائر بأمر من الرئيس ولد هيداله. وبدوره حاول هو وصحبه معالجة الوضع ورأب الصدع وتجنب القطيعة في صفوف اللجنة العسكرية ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ لما يعلم أنه سينجم عن ذلك من انهيار. ولكن سقوط الحكم المدوي في درك الاستسلام لم يترك للأمير العقيد الحر بدا من الهجرة والعمل على الإطاحة بذلك الحكم.
وقد كان أصدقاؤه في اللجنة العسكرية يرشحونه لخلافة الرئيس بوسيف؛ خاصة أنه كان النائب الثاني لرئيس اللجنة العسكرية، وقد كلف بتسيير الأعمال الجارية بعد وفاة النائب الأول. ولكن ميزان القوة في اللجنة العسكرية كان يميل إلى جانب أنصار بوليزاريو الذين رشحوا ولد هيدالة بحجة "كونه الضابط السامي الذي لا قبيلة له في موريتانيا فيخشى أن يقع تحت تأثيرها". وقد انطلت هذه الحيلة على بقية أعضاء اللجنة فصوتوا له.
ولما اتضحت الأمور أكثر وظهر ما وراء الأكمة وانخرطت السلطة الجديدة في "مشروع العاشر يوليو" وأصبحت جزءا من المعسكر المعادي لموريتانيا. حينها عرف الأمير العقيد أحمد سالم ولد سيدي أن الأمور بلغت نقطة لا عودة فيها، فتشاور مع ابن عمه وخاله وصهره أمير الترارزة احبيب ولد أحمد سالم الذي بارك سعيه ووافق على هجرته والتحاقه بحركة التحالف من أجل موريتانيا ديمقراطية. تلك الحركة التي تعبر أهدافها عن قناعته من جهة، ويحببها إليه - من جهة أخرى- انتماء صديقه إليها، رجل الأعمال المتمرد حابه ولد محمد فال.
وخرج الأمير مهاجرا من نواكشوط في سيارة شخصية حتى بلغ قرية لبيرد مقر أمير اترارزة. وكان على موعد مع عناصر من قادة حزب الكادحين هم من تولوا تنظيم رحلته إلى داكار. ورغم أن الموعد كان الثلث الأخير من الليل فإن الأمير لم يصل إلى المكان المحدد بين لبيرد وتنوراته إلا فجرا لصعوبة الانسلاخ من ساكنة لبير الذين نظموا له حفلا شعبيا وفنيا. فركن السيارة في مكان خفي غير بعيد من طريق نواكشوط روصو، وركب مع الذين تولوا المهمة متوجهين إلى ضفة النهر قبالة "تكشكمبه". وكان أحد عناصر الكادحين في الجمارك قد كلف بتوفير زورق لعبور النهر، ففعل. وتم عبور الأمير - صحبة أحد قادة الكادحين- النهر بسلام. وعلى الضفة الأخرى كان كل شيء مرتبا في متجر موريتاني: الفطور خبزا وحليبا وشايا. ولكن الأمير لم ينل منه سوى القليل. وكانت سيارة تاكسي جاهزة لتقلهما إلى داكار.
حاول القيادي الذي يرافق الأمير أن يصعد في المقعد الأمامي فقال له الأمير: بل أنا من سيركب في هذا المقعد لأن الذين صمموا السيارات قدروا أن يركب الأطول في المقعد الأمامي، وأنا أطول منك. قبل القيادي الأمر الواقع وطلب من السائق أن لا يتوقف في الطريق، وأن يتعلل بكون الشريف الذي يجلس بجواره مريضا يجب إيصاله بسرعة إلى المستشفى.
وفي الطريق ألح الأمير على مرافقه بضرورة دراسة ومعرفة تضاريس ومعابر منطقة النهر كمن يخطط لخوض حرب عصابات. وقد أخبره من جهة أخرى بأن الذين تركهم وراءه في السلطة لا يرجى منهم خير أبدا لموريتانيا. كما أخبره بأنه كان قد توجه على رأس وفد حكومي إلى ليبيا طلبا للمساعدة، وأن الليبيين ظلوا يسوفون ويعدونه ويمنونه حتى مل أكاذيبهم وعاد إلى نواكشوط صفر اليدين. وكان أشد ما يؤلمه ويحزنه وهو يودع أرض الوطن هو حالة خاله الأمير احبيب المريض الذي قال إنه لم يكن يريد أن يفارقه أحرى أن يسبب له الأذى، ولكن الأمور في الوطن وصلت درجة لا تحتمل حتمت عليه الهجرة والنضال.
وفي داكار نزل الضيفان عند تاجر آخر قريب للمرافق أكرمهما وذبح لهما شاة. وقد عرف المضيف الأمير بالقيافة فقال لبعض معارفه إن الذي قدم رفقة فلان هو لا شك من أسرة أهل محمد لحبيب الغطاريف.
وفي داكار أستلم قيادي آخر مهمة العناية بالأمير الذي قضى قرابة أسبوع في فندق Hacienda بينما رجع من قدم معه أدراجه وبات تلك الليلة في مدينة نواكشوط.
وقد ماطلت سفارة المملكة المغربية في منح الأمير المهاجر تأشرة دخول حتى فاتته وقائع مؤتمر حركة التحالف من أجل موريتانيا ديمقراطية المنعقد في باريس؛ والذي كان متوقعا أن تتسلط أضواؤه على مقدمه والتحاقه بالحركة.
ومن أغرب ما يتذكره عنه مرافقه في داكار حسن خلقه وسلامة الناس من لسانه؛ لحد أنه وهو الثائر المتمرد على ما وصلت إليه أوضاع بلده من سوء لم يكن يحمل حقدا على أحد ولا يغتاب أحدا ولا يشهر بأحد.
وكان عاشقا شديد الهيام بالأهل والوطن والحياة، قوي التعلق والارتباط والتشبث بما يضحي به وما يضحي من أجله.
 

28. مارس 2016 - 11:40

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا