الأغلبية والمعارضة الواقع السياسي وأزمة الحوار؟! / محمد المختار دية الشنفيطي

الأغلبية والمعارضة الواقع السياسي وأزمة الحوار المنشود بين وسطية الفقهاء وفشل السياسيين ؟!من الهم الوطني الحاضر والضاغط اليوم في كل مجلس وعلى لسان كل متحدث عن الوطن وهمومه هو أين الحوار المنهج الأقوم والسبيل الأحكم، في التحاكم والحكمة بين المعارضة والسلطة،

والله يقول وقوله الحق:{ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً}، وفي الأثر المأثور:"الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها"، وفي تراثنا الشعبي:( إل ماريت النار جمر الكبده)..

ومن حكم الأمثال الشائعة في ثقافتنا العربية قولهم: أن ألمعيدي خير أن تسمع به من أن تراه، ولنا نحن في ثقافتنا الشعبية حكمة ومثال في"حوار الطرشان"وهو مثل حكيم لا أعرف أصل وروده ولا حقيقته ولا ثمراته إلا أن يكون المقصود بالطرشان هم القوم الذين كانوا يقاتلون مع القذافي في سرت إبان الثورة عليه والذين حاوروا دونه ومعه بالسلاح حواراً لا نظير له في شدته وشجاعتهم فيه، فنكون عندئذ قد عرفنا بعضاً من معنى المثل السابق واللا حق لأوانه : حوار الطرشان.

وربما يكون حوار الطرشان هو عينه الحوار المستخدم في الأنظمة الفاسدة المستبدة مع المخدم ولا نقصد الشيخ والتلميذ، وإنما نقصد العامل المقهور حاجة وفقراً والذي لا حق له في عرف رب العمل في تلك الأنظمة في نقاش رب العمل في طبيعة العقد وما يترتب عليه من حقوق وواجبات، وإن كان مكتوباً في العقد توافق الطرفان وتعاقدا، تماما وكما هو مجسد عندنا في عقد شركات الماء والكهرباء مع زبائنها، أو في نظام الجيش في حوار القائد العسكري مع جنوده: تنفيذ التعليمات دون نقاش وبلا تردد وعلى وجه السرعة، فهل الحوار المفقود والمبحوث عنه عندنا هو من نمط  وجنس تلكم الحوارات، أو من جنس حوار الحضارات الشائع في دنيا المنهزمين اليوم من الناس عمالة وتبعية في الفلسفات والنظم ونهباً للثروات وضربا للمعارض وما حوله بالصواريخ والراجمات والقاذفات، أو هو حوار مغاير لتلك الحوارات في الشكل  والوسائل والمضمون والغايات، ومن المقصود به حقيقة وتكتيكاً وما المستهدف منه وبه أصالة؟!.

أسئلة تبدو واقعية وعلمية وموضوعية وبعدما تربعت الأزمة السياسية الحالية على قمة الحياة العامة وهرم السلطة وهموم وأشواق وأحلام المواطن العادي، وغيبت الاهتمام اللازم لدى المسؤوليتين وصناع القرار عن إنتاج أسباب حماية الوطن وعزته ورفعنه ووسائل سبل توفير العيش الكريم للمواطن، والذي كان في أيام النظام المدني ما قبل الانقلابات العسكرية- والذي كانت فيه أيدي الفاسدين مغلولة عن المال العام- وكان المواطن فيه يتمتع بقدر كبير من التكريم والرعاية والخدمات، وكانت وظيفة الدولة الأساسية حينها خادمة للمواطن وحامية للوطن، لا مستخدمة من قبل الشلة العصبية القبلية الفاسدة لتجهيل وتجويع وتشريد المواطن وتفتيت مكونات الوحدة الوطنية والمواطنين وتهديد وجود الوطن وقيم الدين؟!

لا ندعي نحن أبداً أن الدولة الموريتانية ما قبل سقوطها المدوي وسرقتها والسطو على مؤسساتها والعبث بمواردها من قبل قادة العسكر الهاربين من هزيمة حرب الصحراء قد بلغت قمة الانجاز الوطني والعطاء الفكري والإبداع العلمي والإنتاج المعرفي، ثم أصابها ما أصابها على يد ضباط الجيش وحلفائهم التائهين والضائعين حضاريا والمنهزمين فكرياً: الانحدار والتراجع والنكوص، إلى حد الضياع والقبول بالتَّبعية السياسية و الفكرية والثقافية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية لكل فاشل وفاسد في هذه الدنيا ولو كان ذلك بسم ما يسمى بالحرب على الإرهاب!!.

ولكننا نقول أن الأفكار والأشواق والآمال كانت تحدوكل المواطنين إلى مستقبل واعد يضيء هذه البقعة من الأرض كما يضيء القمر، فتبُدِّدُ غياهبَ الظلام الذي كان يلف ثلاثة أرباع العباد والبلاد إلى أن طاف علينا وعليها طائف من الانقلابات العسكرية وفلول مرتزقتها من ضحايا الحركات السياسية التائهين في فيافي الأيديولوجيات والنظريات والأفكار الملحدة والمنحرفة والمستوردة والتي لا تصلح للإنبات في تربة هذا الوطن الكريم المسلم بالكامل والمنكوب بهم !!.

تلك الانحرافات وتشوهاتٌ والانكسارات الفاعلة والملموسة؛ والتي أقل ما يقال فيها أنها أعاقته ولسنين قادمة عن الوصول وحتى الانطلاق إلى أشواقه وطموحاته في انجاز تنمية تحقق أماله وحاجاته  في إنجاز مشروعاته الحضارية وكامل أهدافه وغاياته الوطنية، والتي كان مخططاً لها ويتطلع هو إلى تحقيقيها، وكان من أبرزها وأظهرها مراجعة الأخطاء الكبرى بل والاعتراف بها وتحمل تبعاتها والتواصل  الوطني والحوار الجاد بين المكونات والأفراد لتشخيصها وتحديدها والسعي  الجاد في حلها وبجهد محلي وفكر وطني؟!

ما من شك أن الحوار مكسب وطني لو حصل وإنجاز حضاري مضمون الثمرات الفاعلة في  خادمة الوطن إن تحقق، فهو من علا مات ومظاهر المسؤولية وأبرز ملامح التعاون والتكاتف لتجسيد الوحدة الوطنية وتوظيف كامل الطاقات والجهود لخدمة الوطن وإشعار كافة أفراده بأهمية فكرهم وعملهم ودورهم في خدمة وطنهم وصيانته وتحصينه من كل ما يهدده، أو يعوق تقدمه أو يعطل انجاز مشروعاته .

فالحوار هو الطريق المضمون لبناء الأوطان وهو السبيل الأقوم للتعاون والطريق السالك للوحدة الوطنية الآمنة والمنهج العاصم من قواصم الفتن ومهددات الوجود: الفساد والتهميش والظلم، وهو المعبر حقيقة عن مدى وعي ونضج القائمين به وثقتهم فيما يؤمنون به ويحملونه من أفكار وقيم ونشرها وتقديمها للآخر، وقدرتهم على الأخذ والعطاء، ورجال الدولة والسياسة في ميزان العمل الوطني وبناء الدول لا يقاسون بقدر ما يملكون من توجهات وأفكار، أو يأخذون من الآخرين، وسنة الله جارية في التبادل في الأفكار والمنافع، وإنما يقاسون بقدر ما قدموا من سبل لتبني الأفكار وبمدى قدرتهم على جعل الأخر يتقبل مناهجهم وأفكارهم وبقناعة ويتشبث بها عملاً  في حياته والحوار هو السبيل لذلك ؟!

وما كانت قوة التحكم وبطش الأمن وآلام ضرب السلاح والتحكم في الخيرات والأرزاق من الأسباب الناجحة والضامنة لبناء الدول وبقائها في يوم من الأيام، وهذا القرآن يسجل لنا قصة فرعون، وهو يقول في علو وتجبر:{ ما علمت لكم من إله غيري}، ويسجل القرآن ترجمة ذلك في سلوك فرعون:{ إن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين} ويقول:{ إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم}.

ويعلل ذلك بقوله:{ أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون* أمن أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين}، وبالمناسبة فإن فرعون ليس شخصاً بعينه وإنما هو لقب في القرآن لكل حاكم ظالم متجبر فاسد وإلا فكم من الحكام الفراعنة مروا على هذا العالم، وكم من تماثيل مشيدة لفراعنة مصر!!

والسؤال الاستراتجي والجدي والحيوي هنا أي نوع من حوار التحدي والانجاز نعنيه وننتظره ونتطلع إليه ليحقق لنا تلك التطلعات والمطالب المشروعة العملية والفكرية والانجازات الوطنية الكبرى والمنتظرة، إنه الحوار الذي يجعلني ويجعلك نتبادل الأفكار والرأي والمشورة  فتفضي لي برأيك وتسمع رأيي ولنسير معاً في تروي ولتأخذني كلماتك إلى فكرك نتبادل الآراء في الموضوعات الوطنية الكبرى مثل : حقيقة ونمط الحكامة الراشدة، حماية الوحدة الوطنية، حماية وتوزيع وترشيد الثروة والموارد الوطنية، تحقيق السلم المجتمعي والأمن الوطني، تحقيق وإنجاز الخدمات الفاعلة والمتوازنة للمواطنين جميعا ؟!.
فالحوار لبناء الأوطان هو سلاح البناء وأداة الانتصار والنصر الفعالة، وهو: تبادل للآراء بين عدد من الأشخاص حول قضية أو قضايا مشتركة في محاولة لإيجاد فكر مشترك لحلها.
ولكي يأخذ التفاوض والحوار واللقاء والحديث بين المتخاصمين(السلطة والمعارضة) مسمى الحوار لا بد أن ينطلق وتنطبق عليه مجموعة من الضوابط والمعايير: كأن تتكافأ الأطراف المتفاوضة ويأخذ كل طرف من الأطراف المتحاورة الأمن والأمان والحرية الكاملة والفرصة التامة للتعبير عن آرائه في كل القضايا المطروحة بلا استثناء ودون الإساءة إلى أي من الأشخاص المتحدثين أو تعصب إلى رأي دون أخر وليكون الحوار فعّالاً فلا بد من الوصول بالحديث إلى المكانة المطلوبة والاتفاق على نوع الحلول للقضايا المعنية ويتفق عليها جميع المتحاورين وعلى الآليات ووسائل التحاكم .
والمختصون  في مجالات المفاوضات والحوار يشترطون للحوار والتفاوض المرجو لهما النجاح"وليست شركة بناء المطار" مجموعة من الضمانات أو الشروط والآداب المحددة لعل من أميزها :-
1- أن يكون الحوار فعالاً ومقنعاً بالبحث: فلا أساس لحوار بني على أساس خاطئ فلكي يكون الحوار فعالاً ومقنعاً لا بد أن يكون الهدف لدى المتحاورين موضوعياً متعلّقا بموضوعات محددة وتهمهم جميعاً وأن يكون الحديث حولها لا غير وأن يهدف كل من المتحاورين إلى الإطّلاع على الرّأي المطروح في القضايا لا في الشخص  المحاور المتحدث .
2- توفّر المعرفة المطلوبة لدى المحاور:- فلا بد للمتحدث أن يكون ملماً بما يدور النقاش حوله فيكون ذا ثقافة تسمح له بتكوين رأي ليحاور الآخرين بناء على دراية وإلا كان حديثه ضربا من الخيال أو الخبال وجدلا لا فائدة منه سوى الشعوذة والمشاغبة السياسية وإضاعة الوقت .
3- مصداقية الحوار :- وهي أن يتمتّع كل المحاورين بالصدق في الحديث وينطبق ذلك على صدق الأدلة الداعمة لكل المتحاورين، والصدق المتبادل في الحديث يجعل الحوار فعالاً ومفيداً، ويسمح لكل من المتحاورين الأخذ برأي الآخر بناء على الأدلة المطروحة من الجانبين.
4- القدرة أو السلطة الفعالة والصبر وسعة الصدر:- يحتاج المتحاور لسماع الآراء المختلفة والإصغاء لمختلف المتحدثين سواء أكانوا له مؤيدين أو معارضين، والقدرة على الانجاز والخروج بالمشترك، وذلك ليس بالأمر السهل أو اليسير، ويتطلب من المحاور أو المفاوض التمتع بقدر كبير من الصبر وسعة الصدر لسماع وتقبل الآراء المطروحة ومناقشتها  وفرز المتفق عليه من الذي مازال محل خلاف ونقاش.
5- العلمية والرحمة والاحترام والتواضع :- فلكي يكون المحاور ناجحاً ويصل بالحوار إلى حل يجب عليه أن يكون موضوعياً ورحيماً بمحاوره، وخاصّة إذا ما كان ذا علم أوسع أو موازي وأن يحترم رأي الآخر وإن اعتبره منما عن جهل أو تجاهل، ويجب الابتعاد عن إحصاء أخطاء المتحاور، كما يجب على المتحاور إرشاد المحاور إلى الرأي لأصوب والأكمل  وأفضل السبل للوصول إلى ذلك.
فالتواضع صفة محمودة لا بد منها في المحاور والمتحاور الناجح والحوار الفعال فإذا ما اتضح الخطأ في رأي ما وجب على صاحبه الإقرار دون جدل أو عناد، وأن يحذر من صفات الألد الخصم،المذمومة، قال تعالى:{ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} .

وقال:{ إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولوا أسمعهم لتولوا وهم مغرضون} . وذم النبي الحبيب القائد المعلم والقدوة الأسوة الشفيع– صلى الله عليه وسلم الفاجر في الخصام والخصومة واعتبره من المنافقين، فقال:" وإذا خاصم فجر"والمنافق في الدرك الأسفل من النار.

والحوار الوطني سواء المتوقع أو المؤجل هو طوق النجاة لنا، وإن كان أصعب ما فيه هو كيف نبدأ الحوار، وفي أي زمان ومكان وبأي الشروط، والجواب يكون بعودة المتحاورين إلى المحاور الوطنية والنقاط المشتركة والتركيز على نقاط التواصل لا الانفصال  ومحاولة كل منهم تضييق خطوط الاختلاف والاستناد إلى الأدلة الصادقة المثبتة بشكل موضوعي؟

فهل ترونا  في المعارضة والسلطة قادرين على الحوار،وجادين في إطلاقه وفي ظل هذا القدر الكبير من المماحكة والخيبة والفشل والسيل الهائل من الدعايات المزيفة والاتهامات  والتي يشعل نارها تلك الثلة السياسية الفاشلة والفاسدة والمتمتعة بكل الامتيازات والخيرات ولتي لا تستحقها، ويساندها ويشرع لها عصبة من فقهاء أو متفيهقين يدعون تزويراً الوسطية في السياسة والتوسط في الدين وهم في الحقيقة كأسيادهم ونظرائهم من السياسيين الفاشلين علماً وكفاءة وإنما يحافظون فقط على الامتيازات التي نالوها أكثر من المحافظة على حماية وبناء الوطن وبقاء قيم الدين، والله يقول وقوله الحق:{ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}، وكلا الفريقين في الحقيقة للحوار كارهون وللولاء للسلطة والحكم يتسابقون ويتشبثون ماداموا بالامتيازات فائزين.

ونظرائهم في المعارضة محرومون فإنهم للحكم كارهون ولكل عمله مبخسون ومن تجاربهم معه من كل ما يقدمه متخوفون ومن كثرة نقضه لعهده وعدم تطبيقه لما يتفق عليه يائسون، والسلطة اتجاههم غير راغبة ولا متعجلة في تبديد ما هم منه خائفون، وكلا الفريقين صار بمواقفه في العمل والسياسة لطرق الغلو والتطرف المحارب والمنبوذ سالكون وعن منهج الاعتدال والصراط المستقيم والتوسط المرغوب في السياسة والدين مستنكفون ؟!

ولا حل للمشكلات الوطنية، والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الضاغطة إلا بالحوار الجدي والفاعل والبناء بين المعارضة والسلطة وكل الفاعلين، وخلق أسباب الاعتدال وتبنى وسيطرة الوسطية الحقيقية والاعتدال السياسي في كل الآراء والأفكار والقضايا وليست طبعاً تلك الوسطية المعروفة في (بروكندا) السلطة وأطراف في المعارضة، وإنما الوسطية الحقيقية الشرعية التي وصفنا الله جل في علاه  بها، وكل يدعي وصلاً لليلى  وليلى لا تقر لهم بذاكا

فالوسطية كما وصفها الله هي العلم والصدق والإخلاص والالتزام بالحق والتجرد له: قال تعالى:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } البقرة:143.فهي الشهادة بالحق وللحق؟!

فليس مطلقا من الاعتدال والوسطية تزوير الدين ولا تطويع نصوصه لموالاة أو محاباة أعداء الدين من اليهود والنصارى، ومساندة الظلم والفساد ومحاربة دعاة الحرية والعدل والإنصاف والتمكين لقيم الدين، والربانين من علماء الأمة من أهل السنة والجماعة يبرزون معالم منهج أهل السنة في الاعتدال والوسطية بما يجليه عن تحريف الغاليين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:(وكما أن هذه الأمة وسط بين الأمم، فكذلك أهل السنة والجماعة وسط بين طوائف هذه الأمة) من الشيعة أصل منطلق فكر التكفير في الأمة، فقد كفروا الصحابة وكفروا من لم يكفرهم بسبب بيعة الخلافة، ونظرائهم من من لا يرون ناقضاً للدين ولا عملاً يؤدي للخروج منه ؟!!.

ومعنى الوسطية الأمة التي ذكرها الله في القرآن الكريم: أنهم عدول، يقضون بالعلم ويشهدون بالحق؛ لأن الله يقول:{ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ}الزخرف:86،أي: بالصدق والأمانة والعدل:{وَهُمْ يَعْلَمُونَ}،الزخرف:86،أي: أنهم صادقون في إرادتهم، صادقون في مداركهم، صادقون في  فقههم وتفقههم وفي أفعالهم وأقوالهم.

ولقد صارت الوسطية في أبواق السلطة الثقافية والعلمية والفقهية بمثابة قميص عثمان- رضي الله عنه- اولئك الذين يرفضون حاكمية الدين ويستنكفون عن هيمنة قيمه، كما صارت في هذا العصر مصطلحاً يُجادل عليه في أكثر من مقام، كما أن بعض المنتسبين للعمل للدين من الذين ليس لهم فقه دقيق ولا ضبط علمي ومنهجي ولا هم ممن عرف بشدة العناية بالقواعد والضوابط والمسائل الشرعية يدَّعون أن ما يذكرونه من التوهم والتخرص هو من باب الوسطية والاعتدال!!!،
وحقيقة الأمر أن الوسطية والاعتدال مصطلحاً ت تنازعها تيارات وأفراد ولما يدخلها من الاشتراك والتداول في أكثر من صعيد وميدان ومقام، وهي كلمات تحمل وتدل على جملة من المعاني  والموارد: فتقع الوسطية في الأقوال، وتقع في طريقة ومنهج التقرير للأحكام والمواقف والأصول، وتقع في منهج الرد والمحاججة  للمخالف، كما تقع في الحكم على المخالف .
  فالمورد الأول: في الأقوال: أن الأقوال الوسطية هي الأقوال الصحيحة الشرعية التي دل عليها كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم-، فأهل السنة والجماعة أقوالهم في مسائل الأحكام وأصول الدين وسط، أي: أنها مقتدية بالكتاب والسنة، وإذا ما قلت: إنها  مقيدة بالكتاب والسنة، كان هذا كافياً عن التعليق بأنها متضمنة للعلم، متضمنة للعدل، ومتضمنة لكل ما له صلة بذلك .
المورد الثاني: في منهج التقرير: المصنفون في الأحكام والأصول، أو الكاتبون في هذا الباب، تارة يكتبون من باب التقرير للأحكام الصحيحة، وتارة يكتبون من باب الرد على المخالف، وتارة نجد أن بعض من أهل العلم ربما كتب كتاباً هو متضمن للتقرير ومتضمن للرد والتقرير معاً.
فهناك مقامان: مقام التقرير، ومقام الرد، وهذان المقامان بينهما فرق، ولعل من أخص هذه الفروق وأهمها في المنهج: أنه عند الكلام أو الكتابة في مسائل الأحكام والمبادئ يكون من باب التقرير للمسلمين، والدعوة إلى الهدي الصحيح، فإنه ينبغي أن تراعى في هذا التقرير جملة من الأمور، أهمها أمران:
الأول: أن تُستعمل المفاهيم والكلمات الشرعية الصحيحة في هذا التقرير، أي: المفاهيم والكلمات التي نطق بها القرآن، وجاء بها الرسول- صلى الله عليه وسلم ، أو التي اشتهرت وشاعت عند علماء المسلمين الأوائل، وعند أئمة أهل السنة من الفقهاء .

الأمر الثاني: أن يضبِط هذا التقرير بالاستدلال بالكتاب والسنة، فليس من الفقه ولا من الحكمة في شيء أن نسرد ما نريد من القضايا الفقهية في السياسة الشرعية والأحكام الاجتهادية ونقول: إن هذا هو عين الحق والصواب، وإن غيره هو الانحراف وضلال أو الابتداع أو الأخطاء، ودون أن يُضمن ذلك كله ما يناسبه من الدلائل والحجج .

المورد الثالث: في منهج الرد: ومنهج الرد يختلف عن منهج التقرير، ولذلك فإن طريقة العلماء من أئمة أهل السنة في باب الرد، تختلف عن طريقتهم في باب التقرير، وربما خلط البعض أحياناً، في باب الرد: وهو باب يقصد منه دفع الشر، والله سبحانه وتعالى إذا ذكر في كتابه الكريم مقام الدعوة إلى الحق، اختلف السياق عن مقام إبطال وإنكار الباطل وحجج أهله؟.
المورد الرابع: في الحكم: فالوسطية بوجه عام تعني: الانفكاك عن الإفراط والابتعاد كل البعد عن التفريط، سواء كان ذلك في مورد تقرير الأقوال، أو في طريقة الرد على المخالف، أو الحكم عليه بقدر كبير من الشدة والزيادة والظلم للمخالف من الناس، فذالك كله من رؤوس المحظورات التي  نهى الله تعالى عنها فقد حرم الظلم على نفسه وجعله بين سائر عباده محرماً.حكاماً ومحكومين، متساهلين أو متشددين، متطرفين أو إرهابيين، والله يقول وقوله الحق:{ ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}، ويقول وقوله الحق:{ ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يوم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً فليس من الوسطية في شيء التحريش والتحريض على تباعد الشقة والخلاف بين الراعي والرعية وحكام الفساد والاستبداد والعمالة للغرب وشباب الدعوة  وجموع الحركات الإسلامية والمعارضات السياسية  وإنما الوسطية تعني فيما تعني الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين و الابتعاد عن الظلم والفساد وعن الإفراط والتفريط، والاستبداد وأن للوسطية مقومات وقواعد لعل من أهمها:
أولاً: العلم بالأحكام الشرعية والرصانة الفقهية والوضوح التماسك العلمي: وأكثير المتفقهين يأتيه الإفراط أو التفريط  من جهة قلة الفهم وضعف التفكير ونقص المحفوظ من نصوص العلم وأصوله، وعدم استحضار مقاصد وقواعد وضوابط  الأحكام الشرعية فيحاول ستر ذلك النقص بالتستر وراء التساهل أو الغلو والشدة والعدوان، حتى لا تتضح حقيقة علمه وفقهه، والله تبارك وتعالى يقول لنبيه: {فَاعْلَمْ }،محمد:19 ويقول:{ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }،فاطر: 28، ويقول:{ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}،طه:114، إلى غير ذلك من الأدلة التي تحث على التزود من العلم، والرسوخ فيه باعتبار ذلك هو الفقه الأسلم والمنهج الأقوم.
ثانياً: الأمانة والعدل: يقول الله سبحانه وتعالى:{ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان} النحل:90. فالإحسان للوسطية ركن والعدل لازم من لوازم الوسطية، وقد قال الحبيب القائد الأسوة والقدوة المعلم الشفيع- صلى الله عليه وسلم- لما ذكر الفتن:"..فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأتيه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه"، فلا معنى ولا وجود للوسطية دون العدل والبر والإحسان، والعدل: هو إصابة الحكم الشرعي؛ كما أنزله الله وأمر به، والإحسان هو إسداء المعروف وإجراء الإحسان من تعليم وسقاية وإطعام ودواء لكافة الناس، والبر هو إحياء الصلاة وخلق وإحياء بواعث المودة والتواصل بين الناس!؟ .
  ثالثاً: الاقتداء، وذلك أن دين الله ليس فكراً أو اجتهاداً وحسب، وإن كانت فيه مساحة كبرى للتفكير والاجتهاد، لكن أصوله ومبادئه الأولى مبنية على الاقتداء، حتى في مقام الاجتهاد ومقام التفكير فأنت تنطلق من قواعد الاقتداء والإتباع، وقد أمر الله تعالى نبيه بالاقتداء، فقال:{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}،الأنعام:90، فمسألة الاقتداء بالذين اهتدوا مسألة أساسية في دين الله عز وجل وفي التوفيق للهداية له يقول الحق جل وعلا:{ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ }، النحل:43.
  رابعاً: الصدق: وهو التجرد والإخلاص: وذلك بأن لا يكون مقصودك من من الحوار والكلام هو العلو في الأرض؛ لأن العلو في الأرض، ما ذكره الله إلا سبيلاً من سبل الضلال وسنة من سنن فرعون وهامان، ولإن كان الله قد أمر المؤمنين بالتشبث بالعلو المنافي لحالة الحزن والامتهان فقال جل في علاه:{ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ}،آل عمران:139. فهو علو إظهار الحق والهدى، وإفلاس الطغيان والفساد والضلال .
خامساً: الاقتصاد، وهو ترك التكلف، وهو الركن الخامس من أركان الوسطية، وقد ورد في القرآن الكريم بيان لمنهج المقتصدين في سياق كلام المرسلين لقومهم أنهم يقولون:{ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}،ص:86. وهذا الدين قصد وسهولة ويسر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام، كما في البخاري وغيره:"إن الدين يسر، ولن يشاد الدين احد إلا غلبه"، فمسألة الاقتصاد هي في الحقيقة مسألة من أهم مسائل الوسطية العدل، ومنه: الاقتصاد في الأفعال التي لم تفصلها الشريعة، ولم تكن من مسائل الفقه وفروع الدين، التي يقال فيها بالقياس، والاجتهاد، والاستحسان، والمصلحة المرسلة، ونحو ذلك من الدلائل المختلف فيها، وقد قال ابن تيمية في بيانه لمنهج السلف أن: (من هديهم ترك الاستطالة على الخلق، بحق أو بغير حق). فحتى لو كان الحق معك فلا تستطل أو تظلم من جهة أن الحق معك؛ بل يجب عليك العدل والاقتصاد، قال تعالى:{ ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى}.وقال:{ كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم}.

والوسطية والتوسط والاعتدال هو أن تفهم وتدرك أن هذه المبادئ والأحكام والمقاصد الشرعية مطلوب منك  تطبيقها كلها مع نفسك ومع نصيرك ومن تناصره، كما هو مطلوب منك من باب الأولى تطبيقها مع خصمك ومن يخاصمك وتخاصمه، معتدلاً كان أو متشددا أو متساهلاً أو متطرفاً أو إرهابياً في نظرك ونظر الغرب والشرق، بل يكون تطبقها معه أولا وأكد وأدعى  لاستجابة والموافقة لقول الله تعالى:{ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}وقال:{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}.

26. أبريل 2016 - 16:43

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا