المعلم (...) / عثمان جدو

نشأ في العاصمة انواكشوط وبها تلقى تدريسه الابتدائي وحتى الجامعي ، عاش فترة شبابه في فترة يتهافت فيها أترابه على الهجرة إلى الخارج ؛ خصوصا إلى بلاد أوروبا ؛ بحثا عن نعيم فردوسها البادي وهروبا من جحيم ما أولاه الله من البلاد وظلم من تسيد عليها أنذاك من العباد ..

رفض فكرة الهجرة إلى الخارج وآثر البقاء في ربوع الوطن بين الأحبة والأهل والأصدقاء ؛

حاول خدمتهم من موقعه بجهده ومستواه ومقدراته ؛ ثبت على ذلك وصمد ؛ رغم تواضع جهده وبساطة مستواه المادي والمعنوي .. وكانت قيمة ذلك كبيرة بفعل التضحية الجليلة رغم المحدودية في الوسائل وقلة التأثير والبدائية.

أراد أن يعمل ويدرس ويحصل وينتج ؛ رغم الاصطدام بصخور الواقع المليئ  بالإكراهات  والتحدي .. ورغم عظم المسؤولية فإنه ظل مستشعرا جسامة التحدي ورفعة المطلوب مستعينا بالصبر والتجلد في مقارعة الخطوب .

لم تخامره يوما فكرة الالتحاق بالتدريس لأسباب من أظهرها ازدراء الأهالي غير المبرر وقتها للمدرس وقلة مردوده المادي حينها ولترسب الوصية المنسوجة وهما في مخيلة الذاكرة الشعبية والتي تفضي إلى تفضيل كل مهنة مهما بلغ انحطاط مستواها وتناهت إلى العدم فوائدها على مهنة التدريس رغم نبلها وعلو مقصدها وتنامي إيجابيتها وعموم فائدتها..!

وحين ما جرت رياح الواقع بما لم تشتهيه سفينة المتوقع ومرت الأيام وتوالت السنون ؛ تغيرت أحوال وصرفت مفاهيم وزادت رغبة وتولد حب أخذ وتفاعل وعمل .. انخرط في التدريس وبعد استيفاء ما كتب عليه من تكوين خرج من انواكشوط كغيره من الخريجين الخارجين ؛ خرج والصورة المرسومة في ذاكرته عن عاصمة بلاده التي بناها على المشاهدة والمعاينة تشكل لوحة فنية رديئة متشكلة من مشاهد عن أحياء الصفيح وأخرى لحفر في أغلب الشوارع المقسمة للعاصمة والتي يعتمد عليها المواطن في تنقله ونقل بضائعه ، وطبعا يجد الصعوبة في ذلك عند نزول قطرات المطر الأولى ؛ حيث تمتلئ تلك الحفر بمياه الأمطار وسرعان ما تتحول إلى برك راكدة منتنة وكثيرا ما تكون مراكز لتنام الجراثيم ومصادر الأوبئة بالإضافة إلى كونها منصات موسمية لنقيق الضفادع ؛ تتزين تلك الشوارع بأعمدة كهرباء متهالكة صدئة تتحول إلى آلة صعق وقتل للمارة بشرا ودوابا..

عندما وصل إلى وجهته المطلوبة وبدأ في مهامه الجديدة وجد نفسه أمام مهام أكثر ودور أشمل؛ بفعل انتشار الجهل والتخلف والعادات الضارة والمسلكيات السيئة ووعورة الأراضي وغياب وسائل الإعلام وسيادة العقليات البائدة  ؛ فبالإضافة إلى كونه مدرسا وجد نفسه إماما وقاضيا ومرشدا اجتماعيا وممرضا وموثق عقود ومشرف بناء بل مباشرا له أحيانا ..!

مكث هنالك ما شاء الله يؤدي دوره كما هو ؛ حتى رأى بأم عينه -في مكان عمله وفي المحيط من حوله- تغير الأحوال وتحسن المآل ؛ فانتشر العلم وكثر الوعي وتعددت المرافق الخدمية تعليمية وصحية وقضائية ودخلت وسائل الإعلام كل بيت وعريش ؛ مما تولدت عنه تقافات جديدة لمن لم يحوزوها أصلا ولم يتشبعوا قبلها بأي نوع من انواع العلوم؛ فصاروا طراق المجلس يحللون النشرات ويعلقون على البرامج والحوارات والندوات..

عاد إلى حيث انطلق بعد غياب طويل وعند مدخل العاصمة بدأ يلحظ تغيرا كبيرا حدث في غيابه ؛لاحظ أن أحياء الصفيح تلك تحولت إلى مناطق مأهولة بشوارع فسيحة وإنارة متميزة ومرافق حيوية حديثة والشوارع التي عرف وألف -من قبل- لم تعد هي تلك الشوارع المتهالكة ذات الحفر المنتنة والأعمدة الصدئة ؛ بل حلت محلها شوارع فسيحة مرتفعة جدا لا يمكن بقاء مياه الأمطار عليها بعد نزولها  ولو للحظة تزينها أعمدة كهربائية مزودة بالطاقة الشمسية -الصديقة للبيئة -وعلى جنباتها أرصفة إسمنتية مزينة بشجيرات تضفي ألقا على المشهد وتعطي واجهة حضارية جديدة تعكس مدي  التغيرات التي حدثت والتي لا يمكن إنكارها إذ ترى بالعين المجردة ويقر بها الناظر بعيدا عن المناكفات السياسية ومماحكات المعارضة والموالاة ؛ فهي مكسب وطني بحت بالإضافة إلى غيرها من المنشآت المستحدثة في المجالات الأخرى سواء على مستوى الموانئ أو المطارات أو الملاعب والمرافق الأخرى في العاصمة أو في بقية الولايات؛

قد لا يكون هذا هو حجم التطلعات ولا مبلغ الأمنيات ولكنه شيء حاصل وحدث واقع ينبغي ذكره والمطالبة بالمزيد بعيدا عن النكران الذي يسئ إلى من استمرأه واستطاب الجحود والنظر إلى نصف الكأس الفارغ أكثر من غيره.. علينا أن نرى الأشياء بعين الواقع كي نكون واقعيين فذلك  أكثر إنصافا وأقل إساءة لنا قبل غيرنا .
 

25. مايو 2016 - 23:16

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا