دَسْنَ.. فتصريح الرئيس قد لا يكفي! / محمدو ولد البخاري عابدين

سئل رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز في لقاء صحفي سابق بمدينة نواذيبو هل سيترشح للرئاسة سنة 2019 أم لا، فطلب من الصحفي صاحب السؤال الاحتفاظ به على أن يجيبه عليه بحلول ذلك التاريخ. أخذ البعض من هذا الرد أن الرئيس لم يحسم بعد أمره من الترشح لمأمورية ثالثة، بل الراجح 

أنه فعلا يعد لتلك المأمورية، أما بالنسبة لي فقد تأكدت في تلك اللحظة، والصحفي يسأل والرئيس يجيب، أن رد الرئيس إنما كان ردة فعل على سؤال في غير محله ولا زمانه، أن يسأل سائل رئيسا لما يكمل بعد السنة الأولى من مأمورية من خمس سنوات هذا السؤال وكأن الأهم والملح، طيلة السنوات الأربع القادمة، هو طرح كل شؤون البلاد جانبا إلى أن يتم تحديد مستقبل الرئيس!
تحدث وزير الاقتصاد والمالية بعد ذلك، في إطار تقديمه لردود على مداخلات بعض نواب المعارضة حول خدمات وبرامج تنموية يريدونها أن تصبح قائمة بمجرد التفوه بالعزم على إقامتها، على الطريقة التي تشيد بها المدن والمنشآت خلال ثوان في الأفلام الكرتونية! والكل يعرف وهم يعرفون، أن المشروعات الخدمية والمنشآت التنموية هي تصور أولا، ثم دراسة وتخطيط، ثم تعبئة موارد، ونقاش ومصادقة من غرفتي البرلمان، واختيار شركات منفذة عبر المناقصات، ثم بداية الأشغال في تلك المنشآت التي لكل منها آجاله المحددة حسب حجمه وطبيعته، ومن الطبيعي والعادي جدا أن تظهر عوائق لم تكن متوقعة خلال كل مرحلة من مراحل هذه السلسة، فقد يتغير التصور المبدئي ليشمل جوانب أخرى ظهرت إمكانية شموليته لها، وقد تتغير الدراسة من أجل التحسين والحرص على الجودة أو تقليص التكاليف، وقد تتأخر تعبئة الموارد أو تكون من عدة جهات تختلف نظم وقوانين تمويلها وتعاونها، وقد يتأخر إجراء الصفقات واختيار المنفذين للأشغال لأسباب فنية أو روتينية، وبالتأكيد ستظهر مفاجآت وإكراهات عملية التنفيذ والأشغال نفسها على أرض الميدان المختلف بطبيعته عما هو على الأوراق من معطيات فنية..
والتعاطي مع كل هذه التغييرات يضيف وقتا على مدة تنفيذ المشروع التي لم يكن تحديدها في الأصل إلا تصورا أوليا.. كما أنه قد يتم تأجيل المشروع أو إلغائه نهائيا لظهور عوائق مالية أو فنية أمام تنفيذه، أو ظهور الحاجة لأولويات طارئة أكثر منه إلحاحا، أو تراجع مموليه عن تمويله لأساب تخصهم، خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية العالمية. وهذا كله مألوف وعاد وطبيعي جدا، وهو نفس " الإيتنيرير " الذي كانوا هم سيسلكونه لو كانوا هم من يتولون تسيير الأمور إلا إذا كانوا " عفاريت "! ولا حكومة على وجه الأرض تفي بكل تعلن عنه من برامج خطط في فترة زمنية محددة، والعبرة بتحقيق أغلبية أو أهم تلك البرامج والخطط.
وقد كان النواب هم أول من أتى على ذكر المأموريات في هذه الجلسة قائلين إن الرئيس تعهد في مأموريته الأولى بكذا وكذا، وهاهو في مأموريته الأخيرة ولم تتحقق تلك الوعود، فقال الوزير إن كل ذلك لا تكفيه مأمورية أولى ولا ثانية ولا ثالثة.. وهذا ما كنا نقوله ويقوله كل منصف ينظر للأمور بعقلية متجردة وبعيون سليمة، فقلنا مرارا بأن بلدا لم يخطط أهله في السابق لما سيكونون في حاجة إليه في المستقبل من منشآت وخدمات، لن يكون من المفاجئ ولا من الغريب أن تتراكم عليه تلك الحاجيات التي من المفترض أنها كانت عمل  أربعين أو خمسين سنة مضت، وستتكالب عليه أصوات المحتاجين لها، وتفتح علية الأفواه من كل جانب، خاصة مع انفتاح إعلامي وحريات غير مسبوقين ليظهر، من حجم المطالب والاحتجاجات والنقص في الأساسيات والأولويات، وكأنه مكتوف الأيدي يتفرج بينهما هو منهمك في العمل وفي سباق مع الزمن في سبيل سد النقص في تلك الأولويات والأساسيات، وبدل النقد المنصف والبناء الواعي لحجم النواقص والتحديات، يلجأ المناوئون لأسلوب " الإجهاز السياسي " الممنهج على نظام كان قدره أنه هو من قاد مرحلة ظهر فيها التقصير الواضح والكبير لمن سبقوه في الحكم، ورأى الناس حركية في التعمير وإقامة المنشآت من بعدما قنطوا فأمِلوا وتاقوا إلى المزيد منها، خاصة في زمن فتح فيه الموريتانيون عيونهم على العالم من حولهم بفعل وسائل الاتصال واكتشفوا أين هم منه..
وفي نفس السياق تحدث وزير العدل، في لحظة " زهو " بما يقتنع بأنه إنجازات لنظام ينفذ سياساته ويدافع عنها. لكن انتبهوا معنا لمفارقة أن قبة البرلمان التي عبر فيها الوزيران عن رأييهما و " المقدسة " عن التعبير عن كل ما هو غير دستوري تحتها، هي نفسها القبة التي قال تحتها نفس النواب ونواب آخرون من نفس الخندق السياسي إنهم سيطيحون بالقوة برئيس منتخب يناقشون ويصادقون على القوانين المقدمة من حكومته، فهلا اعتذروا هم أيضا، وهل طالبهم أحد بالاعتذار؟!!
اليوم ومن كثرة ما خاض الناس هنا في المأمورية الثالثة وتغيير الدستور من أجل ضمانها، أصبح هذا الموضوع من ضمن الأسئلة التي تطرحها الصحافة الأجنبية على الرئيس كلما التقت به، ليصرح لوسائل إعلام أوربية قبل أيام بالأتي: " القسمان اللذان أقسمتهما أكثر أهمية وقوة من كل ما سأقوله في المستقبل ومما تقوله المعارضة ". فرأى بعض طيبي القلوب أن في هذا التصريح انفراجا وطمأنة للمعارضة المقاطعة للحوار، رغم أن الرئيس صرح قبل هذا لوسائل إعلام بأنه أقسم وسيبر قسمه، وقال نفس الشيء لقادة أحزاب التقى بهم، وقال لآخرين بأن الحوار المرتقب لن تطرح فيه مسألة المأموريات، وهو تعهد قابل للاختبار مادام الحوار على الأبواب ويمكن للمعارضة دخوله، وبمجرد طرح قضية المأموريات تنسحب وبيدها تسجيل موثق بالصوت والصورة تثبت للرأي العام من خلاله أن الحوار كان فقط من أجل تمرير مأمورية جديدة للرئيس!
لكن تعالوا بنا نتكلم بصراحة أكثر عما لا شك أنه معلوم لدى الكثيرين منكم، فسعي الرئيس لمأمورية ثالثة  لم يكن ليحول دون حوار دعي له والرئيس لا زال في السنة الأولى من أول مأمورية له، ولم يكن سعيه لمأمورية ثالثة هو ما خلف جزء من المعارضة عن حوار 2011 بعد ما كانت المعارضة كلها تستعد لدخوله، لكن " الثورات " في المنطقة هي ما جعل ذلك الجزء من المعارضة يتصرف كالذي عندما " شاف النو أفلت كربو " إذ لا حاجة بالنسبة لهم لحوار مع نظام للحصول منه على تنازلات بينما تتسنى فرصة الإطاحة به والتخلص منه عبر ثورة، وهي الثورة التي اعترفوا فيما بعد بأنها لم تكن في صالح البلد بل إنها كانت ستمحوه من على الخريطة. ومن حقنا، بالمناسبة، أن نعتبر من خاض تلك المغامرة ثم اعترف بعد ذلك بخطورتها على البلد قد مر بفترة من تاريخه السياسي بنزعة عداء للوطن، لكننا نلتمس له أحسن المخارج في أن تلك النزعة إنما كانت عن عدم وعي أو سوء تقدير، أو هي من وسوسة العدوين النفس والشيطان، وعفا الله عما سلف.. أما من لا زال مصرا على خوض تلك المغامرات بتعريض البلد للهزات والاضطرابات، فقد لا نسميه عدوا للوطن، لكن اعتباره وفيا مخلصا له سيكون كثيرا في حقه..
إلا أن المعارضة حتى ولو كانت منخرطة في إطار واحد يجمعها تسميه منتدى، فإنها " اطبايك وابنايك " كما يقولون، مصالح ومشارب وتوجهات وأصول وفروع شتى.. وبذلك فالكثير من تشكيلاتها ترى ما تعتبره اختلالات في التسيير والحكامة والعدالة والحقوق، وترى أنه بالحوار المستمر يمكن التحسين من تلك الاختلالات، ولا ناقة لها ولا جمل، أو على الأقل غير مقتنعة بما يعرف بالممهدات التي، حتى ولو كان تم قبولها بحذافيرها، فإنها لم تكن سوى نابض القنبلة التي كانت ستنفجر في قاعة الحوار عندما تطرح أحزاب وشخصيات محدودة من المنتدى مشكلتها وقضيتها الأساسية مع شخص الرئيس، ما دأبت على طرحه من أن الحوار يجب أن يكون، ويكون فقط، إعدادا واستعدادا لما يسمونه بالتناوب على السلطة، والتناوب في قاموسهم محدد وبشكل دقيق وهو ضرورة وصول المعارضة للسلطة وإلا فلا تناوب!
ولا يمكن لهذه الأحزاب والشخصيات المحدودة، بأي حال من الأحوال، إلا أن تكون شعرت بالتململ الذي بدأ يدب في صفوف من كانت تأخذهم كرهائن من مكونات المنتدى الأخرى، بواسطة الممهدات والقول أن لا فائدة من حوار مع نظام يعد للبقاء في السلطة.. وهو التململ الذي بدأ يتزايد مع كل يوم يمر من الأربعة أسابيع التي حددها خطاب النعمه لإطلاق الحوار، والذي ظهر منه للعلن إعلان رئيس " حزب التحالف الديمقراطي " يعقوب ولد أمين مشاركته في ذلك الحوار، وتردد أنباء عن استعداد شخصيات مما يعرف بالمستقلين للمشاركة معززة تلك الأنباء بكتابات نشروها وضمنوها انتقادا لعدمية نهج واستراتيجية المعارضة الحالية، ولا شك أن ما كان سيحدث فجأة من مشاركة أو التحاق أطراف أخرى بالحوار، حتى مع تظاهرها بالالتزام بخط المنتدى وشروطه لهذا الحوار، كان متوقعا ومأخوذا في الاعتبار.. كما كان لافتا قول المنتدى في بيانه الأخير أن النظام يدرك جيدا أنه، أي المنتدى، لم يكن مصرا على تلبية كل نقاط الممهدات.. وما ذلك إلا أحد تجليات ذلك التململ.   
هذا إن لم يكف المنتدى مجتمعا سحبا للبساط من تحته قيام حوار شامل يأخذ شموليته من المواضيع التي ستطرح للنقاش خلاله بدون تحفظ ولا حدود، ولا يأخذ تلك الشمولية بالضرورة من مشاركة الجميع فيه.. تنبثق عنه نتائج وتفاهمات ستحدد مستقبل البلاد في السنوات القادمة، وستكون هي، أي المعارضة المقاطعة، أمام خيارين إما العزلة والبقاء خارج الفعل مستقبلا، أو المشاركة في هذا المستقبل على أساس نتائج وتفاهمات حوار قاطعته في الأصل، وهو الواقع الذي وضعها أمامه حليفها " يعقوب ولد أمين " عندما قال إنه طلب من كل حلفائه من قادة المعارضة التعهد له بمقاطعة الحوار ومقاطعة نتائجه ليذهب معهم في ذلك الخيار، قائلا إنه لم يجد من هو مستعد لذلك التعهد من كافة قادة المعارضة وبدون استثناء، طالبا منهم " لمس أي آذانهم أقرب ".
هذه القناعة والواقعية التي توصل إليها ولد أمين وآخرون وقرروا من خلالها المشاركة في أي حوار سينطلق، لم يكونوا وحدهم من توصلوا إليها من أطراف المنتدى، بل هناك من توصلوا إليها قبلهم لكن عزتهم الشجاعة للاعتراف بها والتصرف على أساسها، فاستراتيجية لإطاحة بالنظام عبر الشارع فشلت، والانقلابات المستجداة التي قد تطيح بالأنظمة لن تكون في صالح المعارضة، والشعب لم يستجب للتعبئة لمقاطعة الانتخابات لتقويض مصداقيتها وشرعية المؤسسات المنبثقة عنها فلم يبق إلا خيار الحوار، لكن بالنسبة للمؤمنين به وبدوره في الإصلاح المرحلى والمتدرج و" توطين " مفاهيم الديمقراطية الوافدة على الدولة والمجتمع، والتحسين المستمر لمناخات هذه المفاهيم والتمكين للمؤسسات.
فمن هذه قناعاتهم، وهم موجودون في المنتدى، لن يتخلفوا عن حوار مفتوح، لكنهكم لن يتمكنوا من ذلك إلا بامتلاك الشجاعة واستقلالية القرار وفك الارتباط بأطراف أخرى لها أهداف أبعد بكثير، لا يعني لها شيئا ولا تكتفي بإعلان الرئيس عدم تقدمه لمأمورية ثالثة، وستواصل التشكيك في ذلك الإعلان، لا لعدم التأكد من جديته، وإنما للاحتفاظ بمن يمكنها الاستمرار في الاحتفاظ بهم كرهائن لفكرة سعي الرئيس لمأمورية ثالثة وعدم جدوائية الحوار معه. أما الأهداف الأبعد لهؤلاء فهي خروج الرئيس شخصيا من الساحة الوطنية ومن المستقبل السياسي للبلاد وإلى الأبد، وعندما يتعهد الرئيس بذلك اليوم فسيبدأ الحوار غدا بمشاركة الجميع وعلى دخان حرق أوراق الممهدات والرد المكتوب! والرئيس نفسه مدرك لذلك ومنتبه له نفس انتباهه لفخ مطالبة المعارضة بتأجيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة كشرط للحوار، إلى حين حصول إجماع سياسي ستتمادى المعارضة في تأخير حصوله، إلى أن يصبح الرئيس خارج الشرعية ويكون للموضوع استحقاقات أخرى..
فلكي تتهيأ الظروف للحوار بالنسبة لأطراف معروفة من المعارضة إذن، فيجب أن يكون جوهر الحوار إما " تمييزا إيجابيا " بتفصيل موضوع الحوار على مقاس وضمانات إيصال المعارضة للسلطة في رئاسيات 2019، أو " عزلا سياسيا " بإزاحة كل ما من شأنه، وكل من قد يمثل عقبة أمام وصول المعارضة للسلطة في تلك الانتخابات مهما كان رصيده ومكتسباته على الأرض، أو ما يمكن أن تُشتم فيه رائحة أنه سيمثل امتدادا للنظام بعد انتهاء مأمورية رأسه، فتلك هي " الديمقراطية الحقيقية " التي ينادون بها!
فهذا الهدف غير المعلن هو ما تدور حوله مدارات كل ما يتعلق بالحوار وما عداه حشو وتكتيك.. وهو غير معلن بالطبع لأنه غير منطقي، وهو بالتالي غير مقبول بالنسبة لشخص أصبح رمزا وطنيا له مكانته في الساحة الوطنية، وله بصماته الواضحة التي تركها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والدبلوماسية منذ ظهوره في المشهد منذ سنة 2005 وإلى اليوم، ولا توجد قوانين وطنية ولا دولية، ولا حتى منطق يمنعه من مواصلة الفعل في الساحة الوطنية لمواصلة مشروعه السياسي غير المحدد بعشر سنوات ولا عشرين ولا ثلاثين.. ليس بالضرورة بوجوده كرئيس في السلطة، وإنما من خلال حزبه وغيره من القوى الأخرى الشريكة في هذا المشروع، سواء كانت أحزابا أو قوى مهنية و شبابية ومرجعيات ثقافية.. فالمشاريع السياسية والاجتماعية هي فلسفة ونهج ورؤى وآفاق واستراتيجيات بعيدة المدى أولا تكون.
فلتمتلك الشجاعة إذن تلك الأطراف التي يهمها التحسين من كل أوجه الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية في البلاد عبر الحوار والتشاور دون غيرهما من الأجندات، وليلتحقوا بمن سبقوهم من زملائهم للتوصل لقناعة أن اليد التي لم تستطع قطعها لست مطالَبا بتقبيلها، لكنك مدعو لمد يدك لها لحوار بدون سقف ولا حدود، وليدخل هؤلاء قاعة الحوار مرفوعي الرؤوس غير مهطعين، فليس فيما أقدموا عليه خيانة ولا ما يُندي الجبين أو يُنكس الرؤوس أن لبوا نداء وطنهم لتدارس شؤونه بما يضمن استقراره وتعزيز مكتسباته ومؤسساته، وبما يتماشى مع خصوصيته وظروفه ومحيطه وتحدياته، وهم الرابحون إذا انطلقت حسابات الربح من حفظ وحماية واستقرار الأوطان، خصوصا في هذا الزمان

14. يونيو 2016 - 12:31

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا