''الفرانكفونية'' تحتضر في موريتانيا / محمد يسلم يرب ابيهات

في الوقت الذي تعيش فيه بلادنا أجواء عامة من الفرح والانتشاء العفوي و المشروع بـ''العروبة'' و''العربية'' و''العالم العربي''، ولا صوت يعلو في وسائل الإعلام، ولا في الشارع، ولا في الأسواق، ولا الأماكن العامة، ولا حتى في البيوت والمنازل، علي الحديث عن ''القمة العربية''؛ تعمد ثلّة من ''المتفرنسين''

 في إطار التحالف الفرنسي، إلي تدشين مقر له، يهدف إلي دعم الجهود المبذولة لنشر اللغة والثقافة الفرنسية في موريتانيا..
وهو توقيت، غير بريء، ويبدو أنه متعمّد، ومدروس بإتقان؛ فنحن لسنا في أيام ''الأسبوع العالمي'' للفرانكفونية، وليس هناك من تقاعس، ولا كلل، ولا ملل في خدمة لغة المستعمر من طرف سدنتها في البلد، فما الداعي إذا، إلي اختيار هذا التوقيت بالذات؟ إنها محاولة يائسة، بائسة للفت الأنظار وإشعار الجميع بأن الفرانكفونية موجودة، نشطة، لا ينقصها الداعمون ولا ''الرعاة'' الأسخياء الذين يؤمنون بها، من بني جلدتنا...
لكن الحقيقة لا تخفي علي أحد، وزمن الانتشاء والزهو في المحافل، بإتقان اللغة الفرنسية، واعتبارها ''لغة المثقفين'' أو''النخبة'' قد ولّي، غير مأسوف عليه، وإلي غير رجعة...
واللغة الفرنسية، في عقر دارها، وفي العالم أجمع، تعاني من انحسار في المدّ، وانكماش، وتقهقر منقطع النظير...وذلك علي الرغم من كل ما يروّج له، وعلي الرغم من الدعاية الهائلة، والتي تكرس لها أموال طائلة...
وفي بلادنا –ولله الحمد- وبنظرة بسيطة إلي المؤشرات التالية، نلاحظ بوضوح، أن العربية، وعلي الرغم من قلة ''الداعمين'' و''الرعاة'' و''ضعف الوسائل'' وتخلف كبير في ''المناهج'' التربوية، إلا أنها، في السنوات الأخيرة، أصبحت :
1-لغة المثقفين، الذين يتقنون اللغات الأجنبية الأخرى، بما فيها اللغة الفرنسية نفسها؛ اللغة ''الغازية'' و''المنافسة''؛ هذه الطبقة أصبحت لا تتحدث في وسائل الإعلام، وفي البرامج الحوارية، والنقاشات العامة، إلا باللغة العربية، وذلك وعيا منها بأن الغالبية من المتلقين، والمستهدفين بالتحسيس، والتوعية، والتوجيه، والإرشاد، لا تفهم إلا اللغة العربية..
2-يتزايد اهتمام الشباب الموريتاني، مع تنامي الوعي الحضاري، وتوفر وسائل الإطلاع، ووسائط الاتصال، باللغات الأجنبية الأخرى التي تعتبر أكثر أهمية من الناحية العلمية، والاقتصادية، والثقافية، كاللغة الانجليزية، والاسبانية، والروسية، والألمانية، والبرتغالية، وحتى الصينية، واليابانية، والتركية...؛ فلا يوجد ''حق أفضلية'' و''لا وصاية علي العقول'' من طرف اللغة الفرنسية، إلا علي المغفّلين علميا، السّذج ثقافيا، والمتخلّفين حضاريا...
3-الإدراك المتزايد للقائمين علي الشأن العام، بأن تعريب القطاعات الحيوية، وخصوصا ''السيادية'' منها في البلد، أمر حتمي؛ و هو ما يتماشي مع منطق الأمور، ويستجيب لرغبة هذا الشعب المسلم، العربي الإفريقي، الذي اختار-وما كان له غير ذلك- اللغة العربية، لغة رسْمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية؛ وهي لغة القرآن، ولغة العلم، ولغة أكبر، وأوسع، وأشمل، وأعمق حضارة، امتدادا وصهْرا للشعوب، عرفها التاريخ، وقبل كل ذلك وبعده، لغة سيّد الكونين والثقلين؛ فهي لغة مقدّسة، ''لا يشْنأها إلا من اهْتاف به ريح الشقاء''...
4-نظرة سريعة علي حجم حضور المواقع الالكترونية، والصحف والجرائد في بلادنا، وحتى إطلالة خاطفة علي وسائط التواصل الاجتماعي، خصوصا ''الفيسبوك'' و''المدونات'' علي الشبكة العنكبوتية، تعطيك فكرة عن الفارق الكبير في العدد بين مستخدمي اللغة العربية، كوسيلة للإطلاع، والبحث، والتواصل، وغيرهم. فتجد موقعيْن نشطيْن، وصحيفتيْن أو ثلاث، و''مدوّنيْن'' نشطيْن أو ثلاثة باللغة الفرنسية، بالكاد؛ بينما تجد الأعداد منها باللغة العربية بالعشرات، بل بالمئات...
5-البرامج الحوارية، الواسعة الانتشار، أو الأكثر ''متابعة''، سواء علي أمواج المحطات الإذاعية أو التلفزيونية، بما في ذلك التعاليق الرياضية، خلال المواسم الرياضية الكبرى؛ وكذا الإشهار، والإعلانات الترويجية؛ هي في الأساس والأغلب باللغة العربية، عامية أو فصحي -لا يهم-، أو باللهجات المحلية، فالمهم أنها ليست بالفرنسية- ، ولا تكاد تجد صدي لبرامج من نفس القبيل باللغة الفرنسية...
هذه كلها مؤشرات يفْطِن لها بالتأكيد '' الفرانكفونيون'' في موريتانيا، ويسْتاءون منها، لأنها لا تبشّر بمستقبل زاهر'' للغة ''موليير'' في أرض موريتانيا الإسلامية. لذا، اختاروا أجواء  '' اجتماع'' و ''تواجد'' و ''عناق'' و''تلاحم'' و''تناغم'' العالم العربي من المحيط إلي الخليج، خلال القمة السابعة والعشرين للجامعة العربية، -وإن عزّ اللقاء وقصرت مدته!- وقتا مختارا للفت الأنظار إليهم، عبر تدشين مقر جديد لما يسمي بـ ''التحالف الفرنسي''، وبالمناسبة،-ومن أجل الدقة في المعلومة-، هو ليس ''معهدا'' لتدريس اللغة الفرنسية فحسب، وإنما ''هيئة'' لنشر الثقافة الفرانكفونية وترسيخها، والدفاع المستميت عن ''هيمنة'' هذه اللغة الأجنبية علي القطاعات الحيوية في بلادنا.
إلا أنها، وكما أوضحنا وكشفنا، محاولة بائسة، يائسة من ثلة قليلة من المستلبين ثقافيا، المتخلّفين حضاريا، المهزومين ''لغويا''، أبوْا إلاّ أن ''يطلِقوا البارود الأخير'‘..كما يقال في لغة سادتهم..
لكن كل ما ذكرناه- وإن بشكل مقتضب- لا يكفي للقول بأن واقع اللغة العربية في بلادنا بألف خير، وأن اللغة العربية لا تعاني. بل علينا أن نعي أن التحديات كبيرة، فالمعركة بين اللغتين مصيرية بالنسْبة لنا، فهي معركة هوية وانتماء، وواقع ومستقبل.
ويلزم التنبيه في الختام إلي أن اللغة الفرنسية، كأية لغة أجنبية أخري، ضرورية، ومرحب بها كلغة أجنبية ''ثانية'' أو ''ُثالثة'' أو حتى ''رابعة''؛ أما أن يراد لها أن تزاحم وتنافس اللغة العربية، كما هو واقع الحال في بلادنا، فهذا أمر مرفوض بتاتا، يرفضه الموريتانيون جميعا.
فمتى يعي مسؤولونا، ومثقّفونا، وإداريونا، واقتصاديونا، ورجال أعمالنا ذلك؟
ولعل التأكيد يحسن، قبل الختْم في هذا الموضوع، علي أن دحْر، وإنهاء ''غطرسة'' اللغة الفرنسية و''هيمنتها'' علي مفاصل الاقتصاد، والإدارة، بل حتى الألسن، لن تتم إلا عبر إتقانها والتمكن منها، والتبحر فيها، -بعد إتقان الفصحى طبعا-، وذلك لكي نتمكّن –بحول الله- وفي أقرب الآجال، من تعريب جميع مفاصل الدولة.
وقبل الانتهاء، فإن عملية التعريب التي يريد الموريتانيون جميعا، يجب التأكيد علي أن تتمّ، أبعد ما تكون عن أي ''تسييس'' أو توظيف في الصراعات ضد أي طرف كان، لأن اللغة العربية لغة جميع الموريتانيين؛ فهي لغة ''الفوتيّ'' و'' محمود با'' و الإمام ''عبد العزيز سي''،-رحم الله الجميع- ''، تماما كما هي لغة '' ابن بونة'' أو ''ابن ميابه'' أو الشيخ ''محمد ولد سيدي يحيي''...، سواء بسواء..

16. يوليو 2016 - 14:58

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا