أيام في اسطمبول / أحمدو ولد الوديعة

 أحمدو ولد الوديعةعندما تهبط بك الطائرة  فى مطار اسطمبول الدولي تدرك منذ الوهلة الأولى أنك فى طريقك إلى مدينة عالمية بامتياز فمن حواليك سترى جنسيات عديدة، وستسمع لغات  العالم تتجاور وتتحاور، أما عندما تخرج من المطار وتدلف إلى حضن القسطنطينية فسيظللك شعور آخر فالمدينة ليست ملتقى جنسيات ولغات عالم اليوم بل إنها أبعد من ذلك ملتقى حضارات العالم منذ القدم.

أما حين يبتسم لك الحظ وتقيم فى اسطمبول  أياما وليالي عددا فمعناه أنك فزت بأمر عظيم وقدر لك أن تعيش حياة لاكالحياة، و ستجد  بكل تأكيد الكثير مما يستفزك للكتابة خاصة إذا قررت أن ترجع البصر إلى النقطة التى جئت منها أوأن تصغي إلى العالم الذي يمور من حولك.

 

الطريق إلى اسطمبول

 

   السفر إلى عاصمة الخلافة  فرصة رائعة من الصعب  التفريط فيها خاصة  إن كان داعي الرحلة اجتماع لنصرة القدس وفلسطين ففي الأمر في هذه الحالة فوائد أكثر من تلك الفوائد العشر التى عدها أحدهم للسفر..

وللسفر أيضا فائدة أخرى كبيرة بالنسبة للمبتلين بالتورط في  يوميات العمل الإداري إنها فائدة القراءة تلك  الضرورة الثقافية التى  يكاد يكون تحقيقها من ثامن المستحيلات في موريتانيا لذا فقد تعودت في كل مرة أجد فيها فرصة للسفر أن أصطحب معي  عدة كتب عسى أن أعوض في أيام السفر ما يفوتني من فرص القراءة خلال أسابيع وأشهر الإقامة فى موريتانيا.

 ولأن الزمن زمن ثورات وقومات في وجه الاستبداد فقد كان في طليعة الكتب التى أعددت  لسفري هذه المرة كتابا كنت اشتريته قبل أشهر، وهو كتاب اعرف اسمه وأقرأ إحالات عليه منذ سنوات بعيدة ، لكنه لم يقدر لي أن أقرأه قبل هذه الرحلة المباركة إنه كتاب طبائع الاستبداد، ومصارع الاستعباد للمناضل والثائر السوري العظيم عبدالرحمن الكواكبي1858-1902..

 كنت أحس مع كل صفحة بل مع كل سطر وكل كلمة أقرأها  كما لو أن الرجل يتحدث عن زماننا وكان بداخلى شعور قوي يقول لي آه لو كان الكواكبي بيننا اليوم لقر عينا بشعو بنا المقهورة وقد نهضت أخيرا في وجه المستبدين وسلكت طريقها إلى إقامة دولة العدل.

 كدت في أكثر من محطة أخرج عن طور الوقار وأنا أقرأ تحليلات الرجل العميقة لبينة الاستبداد في عالمنا الإسلامي، ولغته الرفيعة فى التعبير عن ذلك، وكنت في بعض الحالات أعاود النظر إلى تاريخ وفاة الرجل لأ تأكد أن الكتاب لم يكتب خلال السنوات الماضية وإنما كتب قبل أكثر من مائة سنة.. فما أشبه المستبدين ببعض وما أطول ليل الاستبداد في عالمنا المنكوب.

  وقبل الوصول إلى اسطمبول وما فيها من إشراقات ورموز دعونا نقتطف  بعض المعاني الرائعة التى سطرها الكواكبي فى كتابه الرائع

 -  يعرف الكواكبي الاستبداد لغة واصطلاحا فيقول "الاستبداد لغة هو غرور المرأ برأيه  والأنفة عن قبول النصيحة... ويقصد بالاستبداد عند اطلاقه استبداد الحكومات لأنها أعظم مظاهر أضراره التي جعلت الانسان أشقي ذوي الحياة، وأما تحكم النفس على العقل، وتحكم الأب والأستاذ والزوج ورؤساء بعض الأديان وبعض الشركات وبعض  الطبقات  فيوصف بالاستبداد مجازا أو مع الإضافة،و الاستبداد فى اصطلاح السياسيين هو تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلاخوف تبعة.

 في هذا التعريف اللغوي والإصطلاحي يضع الكواكبي الأصبع على صفات أساسية في المستبدين وهي

   - الغرور بالرأي

   - الانفة عن النصح

 - التصرف فى الشأن العام بمزاجية

  - الأمن من العقاب ومن عواقب الأفعال

  ويتبع الكواكبي هذا التعريف بقاعدة جليلة يجزم فيها " أن الحكومة من أي نوع كانت لاتخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والاحتساب الذى لاتسامح فيه كما جرى فى صدر الإسلام في ما نقم على عثمان وعلي رضى الله عنهما، وكما جرى في عهد هذه الجمهورية الحاضرة فى فرنسا..."

 ويزيد المفكر الثائر هذه القاعدة ترسيخا فيقول " ومن الأمور المقررة طبيعة وتاريخا أنه ما من حكومة عادلة تأمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمة أو التمكن من إغفالها إلا وتسارع إلى التلبس بصفة الاستبداد، وبعد أن تتمكن فيه لاتتركه وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين : جهالة الأمة والجنود المنظمة وهما أكبر مصائب الأمم وأهم معائب الإنسانية"

 توقفت هنيهة بعد إعادة قراءة صفات المستبدة السابقة، وجنوح الحكومات بطبعها إلى الاستبداد متسائلا  " كيف يكون مصير بلد جمعت حكومته – أو حاكمه بالأحرى – بين انطباق الصفات اللغوية والإصطلاحية للمستبد مع ضعف المراقبة والاحتساب، وشيوع الغفلة وسهولة التغفيل، والتلبس بأكبر مصائب الأمم واهم معائب الإنسانية  ... لطفاك يارب.

ويمعن الكواكبي فى تعرية الاستبداد فيرسم  بالكلمات الصورة الكاملة للمستبد  من خلال مقولات مكثفة من بينها

" المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم ويعلم من نفسه أنه الغاصب المتعدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته."

 المستبد عدو الحق عدو الحرية وقاتلهما، والحق أبو البشر والحرية أمهم والعوام صبية صبية أيتام نيام لايعلمون شيئا، والعلماء هم إخواتهم الراشدون إن يقظوهم هبوا وإلا فليتصل نومهم بالموت "

 وحتى لايظن ظان أن الاستبداد قدر محتوم يورد الكواكبي مقولات تحث الناس على مقاومة الاستبداد وردعه فيقول

 المستبد يتجاوز الحد ما لم ير حاجزا من حديد فلو رأي الظالم على جنب المظلوم سيفا لما أقدم على الظلم كما يقال الاستعداد للحرب يمنع الحرب"

 المستبد إنسان مستعد بالطبع للشر وبالإلجاء للخير فعلى الرعية أن تعرف ما هو  الخير وما هو الشر فتلجئ حاكمها للخير رغم طبعه، وقد يكفى للإلجاء مجرد الطلب إذا علم الحاكم أن وراء القول فعلا.

 وبعد رسم الصورة الحقيقية للمستبد يورد الكواكبي نصا نفيسا تتصارع فيه رؤية المستبد  ورؤية الأمة " المستبد يود أن تكون رعيته كالغنم درا وطاعة وكالكلاب تذللا وتملقا، وعلى الرعية أن تكون كالخيل إن خدمت خدمت وإن ضربت شرست، وعليها أن تكون كالصقور لاتلاعب ولايستأثر عليها بالصيد كله، خلافا للكلاب التي لافرق عندها أطعمت أو حرمت حتى من العظام.

 نعم على الرعية أن تعرف مقامها هل خلقت خادمة لحاكمها تطيعه إن عدل أو جار، وخلق هو ليحكمها كيف شاء بعدل أو اعتساف، أم هي جاءت به ليخدمها لا ليستخدمها، والرعية العاقلة تقيد وحش الاستبداد بزمام تستميت دون بقائه في يدها لتأمن من بطشه، فإن شمخ هزت به الزمام  وإن صال ربطته.

 آه ما أروعها من صورة لو كانت الأمة وعتها واستماتت من أجل تجسيدها لما كان بطش بنا على مدى العقود بل القرون الماضية  مستبدون وحوش، ترى فيهم كل الصفات السيئة التى أورد الكواكبي وزيادة، ولأن الأمة شرعت فى استعادة الزمام نرى حثالة المستبدين يقاتلون اليوم قتالا شرسا دون عروشهم وكراسيهم التى  بدأت تتساقط الواحد تلو الآخر بعد أن استمعت الأمة أخيرا إلى نداء الكواكبي الذى اطلقه قبل أكثر من مائة عام إن أصل داء الأمة هو الاستبداد، ومنطلق رقيها وعودتها لمكانتها هو التحرر من قبضة الاحكام الجائرة  وإقامة الحكومات الدستورية العادلة.. يتبع

10. أبريل 2012 - 20:58

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا