التعليم ومأزق الإزدواجية / السالك ولد محمد موسي

لا جدال في المكانة التي تحظى بها اللغات القومية في بناء نهضة كل بلد وتكوين شخصيته الثقافية وصيانة هويته الحضارية. ويعتبر النظام التعليمي الأداة الفعالة للمحافظة على هذه اللغات وضمان انتقالها بين الأجيال. وقد عرف النظام التعليمي الموريتاني منذ الاستقلال سلسلة من التعديلات سميت «إصلاحات » كان آخرها ما يعرف 

بإصلاح 1999 الذي كرس الازدواجية اللغوية المبكرة على أساس فرنسة تامة للمواد ذات الطابع العلمي والتقني وتعريب كلي للمواد الأدبية والدينية في ظل طغيان فرنسة ممنهجة للإدارة والأعمال، مما نتج عنه إعطاء الأولوية للغة الفرنسية على حساب اللغات الوطنية وفي مقدمتها اللغة العربية، رغم كون هذه الأخيرة اللغة الدينية لكل قوميات الشعب الموريتاني واللغة الأم بالنسبة للموريتانيين الناطقين بالحسانية (البيظان والحراطين) الذين يشكلون أغلبية سكان البلد.
وكان من النتائج الكارثية لهذا «الإصلاح» أيضا عرقلة مشروع تقعيد وتطوير كتابة اللغات الوطنية الأخرى (البولارية، السونونكية، الولفية) جراء تهميش و إهمال معهد اللغات الوطنية. وتهدف هذه المساهمة إلى كشف تهافت نظام الازدواجية التعليمية واقتراح بديل عملي يضمن حلا عادلا وديمقراطيا للمسألة الثقافية الوطنية وذلك انطلاقا من الثوابت الوطنية المتمثلة في الاجماع على الدين الإسلامي، والوحدة الوطنية القائمة على الاعتراف بالتعدد الثقافي للمجتمع الموريتاني القائم على الانتماء إلى الفضائيين العربي والإفريقي، والخيار الديمقراطي.
المؤامرة على اللغة العربية بين صمت الأنظمة وتخاذل المعارضات
لعله من الغريب أن تلك الثنائية النكدة (الازدواجية التعليمية المبكرة والفرنسة الممنهجةللإدارة والاعمال) كانت وما تزال محل قبول أو سكوت على الأقل لدى أغلبية النخبة السياسية بكل أطيافها تقريبا سواء في النظام أو المعارضة فلا يكاد المرء يسمع أو يرى في برامج السياسيين وخططهم رفضا لتلك الثنائية، إلا عند بعض الأحزاب القومية العربية أو الزنجية عندما تكون في خندق المعارضة، أو في تصريحات حكومية يغلفها الرياء والنفاق السياسي وسرعان ما يتم التراجع عنها لاحقا.
إن رفض هذه الثنائية القسرية التي فرضها نظام بائد على مجتمعنا ظل ينحصر أساسا في بيانات لبعض الشخصيات الدينية والعروبية التي لم تدجنها الأنظمة بتعيناتهاالزبونية، أو المعارضات بتوافقاتها المرحلية الهشة. وباستثناء جمعيات قليلة تحاول خرق جدار الصمت و الدفاع عن العربية في وجه هذه المؤامرة الفرانكفونيةـــ الشعوبية، فإن المرء لا يكاد يسمع صوتا رافضا لدى الأحزاب السياسية الكبرى وكبار الفقهاء ونخبة المثقفين وأعيان المجتمع.
إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
إن الدفاع عن اللغة العربية ـــ باعتبارها الضحية الكبرى لنظام 1999واستمرار طغيان فرنسة الإدارة والاعمال ـــ كثيرا ما يرفع أصحابه مصطلح «التعريب». وقد ظلم هذا المصطلح كثيرا من طرف بعض السياسيين والمثقفين الذين يقدمونه على أنه يقوم على إنكار التعدد اللغوي والاجتماعي في موريتانيا، وأن أصحابه يريدون فرض العربية على الزنوج الموريتانيين وإلحاقهم بالشعوب العربية وبترهم عن الفضاء الإفريقي. ومن هنا يصف هؤلاءالخصوم مشروع التعريببالعنصرية والشوفينية. والواقع أن كبار دعاة التعريب ـــ حسب اطلاعي ــــ لم يصدر منهم أي شيء من هذه الأمور، بل إنهم من أكثر الناس تأكيدا على التعدد اللغوي للبلد و على احترام اللغات الوطنية الزنجية والاعتراف بحقها في الإقرار والعناية .
وإذا كان التعريب قد يقصد به ترجمة العلوم والمعارف إلى اللغة العربية، فإن المعنى الذي يقصده أنصار اللغة العربية في البلد ليس شيئا أكثر من أن يتمتع الناطقون بالحسانية في هذا البلد بحقهم في شعبة معربة من النظام التعليمي يدرس فيها أبناؤهم كافة العلوم والمعارف بلغتهم الأم، وفيإدارة ومؤسسات تستخدم العربية في تعاملها معهم خطابا وتوثيقا، دون أن يعني ذلك إقصاء للأخوة الزنوج أو فرضا لخيار لغوي معين عليهم. فهم يختارون لغة التعليم المناسبة لهم بكل حرية ويمارسون أعمالهم ووظائفهم في الادارة والمؤسسات باللغة التي يختارونها دون أن يلحق بهم ظلم أو هضم. ويحق لمن لا يعرف منهم العربية أن يحصل على ترجمة إلى اللغة التي يعمل بها لكل ما يحتاج إليه عمله.فأين هي العنصرية والشوفينية- بربكم- في هذا الخطاب؟ وهل القبول بفرض الفرنسية على أغلبية المجتمع الموريتاني هو الذي يمنح صاحبه البراءة من تهم العنصرية والتطرف؟.
ولماذا لم يقتد المعجبون بفرنسا المتقدمة في بلدنا بحرصها على حماية لغتها من كل منافسة وسن التشريعات والنظم التي تعاقب من استعمل في الادارة الفرنسية مصطلحا أجنبيا مبطلة الوثيقة محل الاستعمال؟.
إن العصر الحالي هو عصر العلوم والتقنيات بامتياز، مما يجعل تدريس المواد العلمية بغير العربية للناطقين بها لا يمكن فهمه إلا في إطار التنقيص من هذه اللغة الحية واتهامها ــــ زورا وبهتانا ــــ بالجمود والعجز عن مواكبة تطور العلوم والمعارف. إن خصوم هذه اللغة ليتجاهلون عن قصد أنها محفوظة بالحفظ الإلهي للقرآن الكريم، وأن مكانتها في العالم تتعزز باستمرار بعد أن تم إقرارها كإحدى اللغات الرسمية القليلة للأمم المتحدة، وبعد أن أصبحت في مجال المعلومات المتداولة على الشبكة العنكبوتية تنافس اللغة الفرنسية بل تتفوق عليها أحيانا.
إن من المفهوم أن يختار جيل من المثقفين الموريتانيين الزنوج ــــ بسبب ملابسات تاريخية واجتماعية خاصة ــــاستعمال الفرنسية، نظرا لأن لغاتهم الأم ربما لم تصل بعد إلى مرحلة كافية من التقعيد يجعلها قابلة للتداول كلغة مكتوبة. لكن ما ليس مستساغا هو أن يصر بعض السياسيين والمثقفين منالبيظانوالحراطين على اعتماد الفرنسية لغة مهيمنة علىالتعليم والادارة والمؤسسات الخاصة متذرعين بأمور واهية لم تعد تنطلي على أحد . فهذا أمر لا يمكن فهمه إلا في إطار التبعية الفكرية أو التعاون المشبوه مع الدوائر الاجنبية.
حصاد الازدواجية المبكرة الاجبارية
إن الدارس لأنظمة التعليم في دول العالم سيلحقه عناء كبير وهو يبحث جاهدا ليعرف ماهي هذه الدول العظمى المتحضرة والمتقدمة التي تطبق نظام الازدواجية اللغوية المبكرة الذي جادت به علينا قرائح مهندسي ما يسمى "اصلاح 1999".فلن يجد هذا الباحث إلا دولا قليلة وضعيفة أبرزها:(تونس، موريتانيا، الجزائر،المغرب). ومعلومة هي الظروف والملابسات التي فرضت على هذه الدول إعتماد هذا الخيار التربوي الشاذ. على أن في الحالة المغربية استثناء هاماسنشير إليه لاحقا.
وستزداد غرابة الباحث حينما يلاحظ أن أغلب دول العالم هي بلدان متعددة اللغات، لكنها –مع ذلك- لم تلجأ إلى هذا النظام البائس، بل سيجدهاإما دولا اتفقت على لغة رسمية واحدة للتعليم عادة ما تكون لغة أغلبية السكان، كما هو حال بعض الدول العظمى (امريكا، روسيا،الصين )، وإما دولا أخذت باللغات الحية لديها فجعلتها لغات رسمية للتعليم ولإدارة ، مع حل مشاكل التواصل والادارة بواسطة الترجمة، دون أن تمزج بين لغتين في التعليم مزجا هجينا كحال نظامنا التعليمي الراهن. ويبدو أن هذه الدول لم تجد مثقفين غيورين على الوطن كحال اصحابنا يحذرونها من ويلات انقسام المجتمع إلى شارعين ومجتمعين وجيلين متنافرين.
إن معاينة لحصاد الازدواجية التعليمية لدينا بعد ما يزيد على 13 سنة لتكشف عن نتائج كارثية منها:
  تدني المستويات إلى درجات فظيعة أصبحنا بعدها نتمنى لو وصلنا إلى ما كنا نعتبره تدنيا في المستويات ابان تطبيق اصلاح 1979 القائم على نظامين معرب ومزدوج.
وقد انعكس هذا التدني أيضا على مستويات كثير من الخريجين من أساتذة ومعلمين، مما زاد الطين بلة.
  نسبة هائلة من التسرب المدرسي (ما يقارب نصف التلاميذ ينقطعون قبل إكمال المرحلة الابتدائية حسب دراسة أخيرة)
  تدني في مستوى الاخلاق والانتماء الوطني يتجلى في ضعف الشعور بالانتماء إلى الحضارة الاسلامية والانبهار بأنماط السلوك الهامشية في الحضارة الغربية (التدخين، التبرج، انحلال الاخلاق، التحرر من العادات الحميدة ....).
  العجز عن توفير المدرسين بالفرنسية للمواد العلمية في كثير من الولايات الداخلية في ظل تزايد افتتاح المؤسسات التعليمية نظرا لزيادة السكان!.
  انعدام التوازن بين أعداد التلاميذ في الشعب العلمية والأدبية، حيث يقلون كثيرا في الأولى ويتراكمون في الثانية. وهذه النتيجة هي التي يركز عليها المتشبثون بنظام الازدواجية عند تعليلهم لمأزق الازدواجيةوهذا ليس سوى تضليل وذراللرماد في العيون إذ أن النتيجة لن تكون هي السبب!.
  عدم التوزان بين سوق العمل ومخرجات النظام التعليمي، مما فاقم البطالة (حوالي 32% وهو المعدل الأعلى في المنطقة حسب عدة دراسات).وبالنظر إلى أعداد الشباب العاطلين الذين كثيرا ما يتظاهرون أمام القصر الرئاسي و وزارة التشغيل، نجدهم إما من خريجي النظام السابق من المعربين وإما ذوي شهادات أدبية وإنسانية (قانونية، واقتصادية، واجتماعية).
  إثقال كاهل الأسر الفقيرة والغنية معا بتكاليف الدروس الخصوصية في اللغتين لتحقيق أمر عبثي هو إجبارالطفل منذ الابتدائية على أن يكون مزدوجا (للكلمة في العديد من دلالاتها معان قدحية). وبعد بذل تلك الأموال والجهود لا يصل إلى الهدف إلا قلة من الأذكياء مرهقين.وإذا كان هذا حال أهل المدن الميسورين، فما بالك بسكان الأرياف الفقراء وخاصة أهل (آدواب) من الأرقاء السابقين. ومع ذلك يصر بعض منهاضي العبودية على التمسك بالازدواجية ومشروعها الفرانكوفوني!.
ثمان حقائق دامغة
لقد برهنت الدراسات العلمية والبحوث الاجتماعية والتجارب الحضارية على صحة أفكار اصبحت لدى الدارسين حقائق اجتماعية لا ينكرها إلا مكابر وهي:
1- أن اللغة ليست مجرد أداة تواصل اجتماعي فحسب، بل هي أيضا وعاء للفكر ذو حمولة ثقافية وإيديولوجية لا يمكن للمتلقي ــ خاصة إن كان طفلا ــ أن يتحرر منها إلا إن كان قد سبق تحصينه وتشكيل شخصيته بواسطة لغته الأم. ومن هنا تتجلى خطورة تعليم الأطفال لغة أجنبية بصورة مكثفةفي مرحلة مبكرة.
2- أن التعليم باللغة الأم هو الوسيلة المثلى لتوصيل المعارف والعلوم إلى الناشئة، لأنه يجعل جهد الطفل موجها نحو المضمون العلمي للمادة فتستوعبه سريعا، أما التعليم بلغة أجنبية فهو إجهاد وإرهاق للطفل، حيث سيكون عليه فهم عبارات اللغة الأجنبية أولا ثم الانتقال إلى المضمون العلمي ثانيا. وهذا ما برهنت عليه تجارب الأمموأكدته منظمة اليونوسكو في عدة مناسبات.
ولا توجد اليوم دولة لها شأن ومكانة إلا وهي تدرس جميع التخصصاتبلغتها الأم (أو لغاتها الأمهات في حالة التعدد اللغوي)حماية لهذه اللغة (أو اللغات) من المنافسة لدى التلميذ في سنوات الدراسة الأولى. وهذا ما يكشف مرة أخرى تهافت مبدأ الازدواجية المبكرة، ويكشف المخططالتآمري الخبيث الذي كان وراء إقراره وفرضه على مجتمعنا ومازال يصر على التغاضي عن مساوئه وعقابيله.
3- أن نهوض أي أمة لا يكون إلا بالانتظام الواعي في تراثها بعد نفض الغبار عنه وتحديد الجوانب الأصلية والمضيئة فيه . فلا يمكن لأي نظام تعليمي يعادي العربيةواللغات الوطنية الأخرى ويهمش المعارف الإسلامية متذرعا بذلك إلى فرض العلمانية، لا يمكن لنظام من هذا القبيل أن ينهض بأمة إسلامية، بل إن أقصى ما يفعله هو أن يخرِّج مسوخا بشرية مبتورين عن تراثهم وأصالتهم مقلدين للآخر ومنهزمين أمامه نفسيا سواء تلائموا بعد ذلك مع سوق العمل المفرنسة أم لا!!.
4- أن التعدد اللغوي في أي مجتمع ـــ شأن التعدد العرقي والثقافي ـــ لا يكون عامل ضعف أو منبع صراع إذا تم التعامل معه بحكمة وعدالة وإنصاف، بحيث تحفظ حقوق جميع المكونات فيترسيم لغاتها القومية واستخدامها في التعليم والتواصل والإدارة والأعمال، مع مراعاة مبدأ الأغلبية في ترتيب هذه اللغات في الترسيم.
ومن هنا، فإن المطالبة بإعطاء العربية مكانة اللغة الرسمية الأولى للبلد، باعتبارها لغة أغلبية المجتمع الموريتاني دون مساس بحقوق اللغات الوطنية الأخرى في الترسيم والعناية، لايمكن أن يوصف بالعنصرية أو الشوفينية إلا من مكابر أو مغرض.
5- أن الازدواجية اللغوية في التعليم،بمعنى تدريس مواد معينة بلغة وتدريس أخرى بلغة ثانية لجميع التلاميذ، هي ـــ كما أسلفناـــ حالة شاذة لا نجدها إلا بدرجات متفاوتة في دول تعد على أصابع اليد الواحدة وليست من البلدان المتقدمة ولا الصاعدة.
وعلى الرغم من أن أغلبية دول العالم هي بلدان متعددة اللغات، فإن ذلك لم يجعلها تلجأ إلى الازدواجية في التعليم، حتى في الدول ذات اللغات الرسمية المتعددة (سويسرا، بلجيكا، كندا...).
ذلك أن هذه الازدواجية ـــ التي نطبقها الآن بصورة مبكرة وإجباريةـــ ترهق الطفل وتستنزف جهده وتفكك كيانه. ولعل هذا ما جعل المملكة المغربية تتراجع عنها في التعليم الأساسي والثانوي حيث أقرت منذ سنوات تعريب جميع مواد التعليم الثانوي ـــ بما فيها المواد العلمية والتقنية ـــ بعد ما لاحظت الآثار الكارثية للنظام الازدواجي.
لقد تمكنت الدول المتقدمة المتعددة اللغات من حل قضية التعدد اللساني بأساليب مختلفة تتلائم مع ظروف كل دولة دون أن تسير في طريق الازدواجية المظلم.
6- أن تعليم اللغات الاجنبية الحية والاكثر انتشارا ضرورة حضارية للانفتاح على العالم والاستفادة من تجارب الآخرين . وتراثنا الإسلامي حافل بالحث على تعلم الالسن الاجنبية «من تعلم لغة قوم أمن مكرهم»، «من ازداد لسانا ازداد إنسانا» وقد أكدت الأدبيات المعاصرة على هذه الحقيقة، فأصبح من الشائع تعريف الأمي بأنه: "الذي لا يعرف لغة أجنبية". غير أن تعليم اللغات الأجنبية شيء وفرضها قهرا على الأطفال في ازدواجية مبكرة فاشلة شيء آخر.
7- أن الترجمة ـــ بمختلف أنواعها ـــ ضرورة حضارية أيضا لضمان نقل المعارف والمعلومات من لغة إلى أخرى، وللتواصل بين الجماعات والأفراد مختلفي اللغات. وهي الحل الصحيح لكل المشكلات التي يثيرها التعدد اللغوي في المجتمع، تلك المشكلات التي يوظفها مؤيدو الازدواجية التعليمية في دعواهم أن استخدام أكثر من لغة في النظام التعليمي بصورة تامة سيخلق مجتمعين وشارعين وجيلين متنافرين تماما. وهي دعوى ساقطة يفندها التاريخ والواقع. فقد كان سكان موريتانيا قبل قدوم الفرنسية مع الاستعمار يتعايشون متبادلين المنافع والمعارف والعلاقات عن طريق لغاتنا الوطنية إما بواسطة لغة واحدة أو عبر الترجمة بين هذه اللغات، كما أن واقع التعدد اللغوي في أغلب دول العالم ،بما فيها الدول المتقدمة، لم يلجئها ـــ كما أسلفناـــ إلى الازدواجية التعليمية.
إن الذي يخلق شارعين ومجتمعين وجيلين متنافرين ومتصارعين في بلد متعدد الأعراق واللغاتهو فشل الدولة في بناء مجتمع ديمقراطي عادل تتأسس فيه دولة القانون بدلا من دولة القبائل واللوبيات والزمر العرقية وتعترف فيه كل قومية حق الأخرى في ترسيم لغتها وممارسة عاداتها وتقاليدها في ظل احترام الجميع للقانون والمؤسسات الشرعية والثوابت الوطنية.
8- أن ملاك الأمر في حل المسألة الثقافية هو تحديد لغة العمل في الإدارة والمؤسسات الخاصة وهو أمر يتم حسمه بإصدار قوانين ونظم تكرس المضمون الحقيقي لترسيماللغات الوطنية. فإذا كان التعليم يتم بهذه اللغات في حين أن الإدارة والأعمال يتمان بلغة أجنبية، فإن المؤامرة على اللغات الوطنية ستستمر وسيظل الاستقلال الثقافي ناقصا وباهتا. أما إن قامت السلطة الحاكمة بواجبها وفرضت استخدام اللغات الرسمية في الإدارة والاعمال، فإن الصورة ستتغير تماما وستختفي من قاموس الأعذار الحكومية عبارة «عدم ملائمة مخرجات التعليم مع سوق العمل»، كما سينحسر معضل آخر هو هيمنة التخصصات الأدبية والإنسانية على حساب التخصصات العلمية والتقنية، إذ أن السبب الرئيسي لانعدام التوازن بين هذه التخصصات هو ـــ فضلا عن تدريس المواد العلمية للناطقين بالعربية بغيرها ـــ هو طغيان الفرنسة في الإدارة والاعمال في انتهاك صريح لأحكام الدستور واعتداء سافرا على حقوق أغلبية الشعب الموريتاني.
على أن إلزام استخدام اللغة العربية للناطقين بها في الإدارة والأعمال لا يعني فرض هذه اللغة على المواطنين من القوميات الأخرى الذين سيظل حقهم في استخدام اللغة التي تكونوا بها محفوظا على الدوام.
ومن هنا، فلابد من تفعيل الترجمة باعتبارها أداة لا غنى عنها للتغلب ــ إذا اقتضى الأمر ـــ على مشاكل التواصل بين العمال والموظفين ذوي التكوين اللغوي المختلف.
من أجل تعليم ناجح وإدارة رشيدة و مؤسسات وطنية
بعد أن انتهى ما سمي بالمنتديات العامة للتعليم وصدرتتوصياتهاالتي اعتبر العديد من المراقبين أنها تعرضت للالتفاف والتحوير، وبعد أن اتفقت جميع الأطراف المشاركة على فشل النظام التعليمي الحالي و «انعدام مصداقيته»، أود أن أتقدم إلى الرأي العام الوطني بمقترحات متواضعة على شكل نقاط عامة، للمساهمة في حل المسألة الثقافية الوطنية.
أولا: نظام تعليمي يعتمد على التعدد اللغوي وينفتح على العالم
يتم تعديل القانون المتضمن للنظام التربوي للتخلي عن الازدواجية اللغوية وإبدالها بنظام تربوييعتمد مقاربة الأهداف بدلا من مقاربة الكفايات المعقدة والمتكلفة، ويقوم على شعبتين إحداهما تعتمد اللغة العربية والأخرى تعتمد لغة يتم اختيارها من طرفغير الناطقين بالعربية ومن أهم ملامح هذا النظام الجديد:
1. دمج الكتاتيب (المدارس القرآنية الأولى) في مرحلة الروضة وتعزيز العادة الاجتماعية المتفق عليها بين كافة القوميات الموريتانية والقاضية بتوجيه الأطفال ـــ في سن مبكرة ـــإلى تعلم قراءة وكتابة اللغة العربية وأجزاء من القرآن الكريم في هذه الكتاتيب. وهو ما يعزز القيم الخلقية والدينية الاسلامية في نفوس الاطفال ويهيئهم لتعلم اللغة العربية باعتبارهاـــ أولا وقبل كل شيء ــ اللغة الدينية لجميع مكونات المجتمع الموريتاني. ولا يتنافى دمج الكتاتيب في رياض الأطفال مع المحافظة على توفير أنشطة التسلية والألعاب الهادفة في هذه المؤسسات.
2. فرض العربية كلغة للتدريس بالنسبة لكافة التلاميذ الناطقين بالحسانية (إحدى اللهجات العربية الأصيلة)، وتخيير الناطقين باللغات الوطنية الأخرى بين التعلم بلغاتهم الوطنية أو بالعربية أو بالفرنسية. ومرد هذا التخيير إلى أن اللغات الوطنية غير العربية قد تكون ما زالت بحاجة إلى مزيد من التطوير والتقعيد لتكون لغات مكتوبة.
3. إلزام تلاميذ كل شعبة بدراسة لغة ثانية ابتداء من السنة الرابعة من التعليم الأساسي. وتكون هذه اللغة هي (الفرنسية) للدارسين بالعربية، و(العربية) للدارسين بلغة غيرها. وتعطى لهذه اللغة الثانية عناية خاصة لضمان تمكن تلاميذ كل شعبة من اكتساب حد أدنى من إتقانها في نهاية المستوى الإعدادي. ويمكن تجسيد هذه العناية في جعل المادة الثانية إقصائية في امتحانات الانتقال إلى المستوى الثانوي.
4. إلزام تلاميذ كل شعبة ابتداء من المستوى الثانوي بدراسة اللغة الإنكليزية واعتبار الإلمام بها شرطا للنجاح في الباكالوريا.
5. إلزام تلاميذ كل شعبةابتداء من المستوى الجامعيبدراسة إحدى اللغات الوطنية الأربع (الحسانية، البولارية، السنونكية، الولفية) الأكثر انتشارا في الولاية التي ينحدرون منها، وتعطي لهذه اللغة عناية خاصة بحيث يعتبر الإلمام بها شرطا لنيل شهادة التخرج من التعليم الجامعي.
6. تفعيل التعليم المهني الإعدادي والثانوي وجعله شعبة موازية للشعبتين الأدبية والعلمية يتوجه إليها التلاميذ الذين لا تناسبهم التخصصات العلمية والأدبية، وكذا المنقطعين عن الدراسة والعاطلين من غير المتعلمين.
7. جعل التخصصات العلمية والأدبية والمهنية أكثر نوعية وتقسيمها إلى عدة تخصصات فرعية حسب ميول ومستويات التلاميذ وذلك إبتداء من المستوى الثانوي، مع ربطها بمحيط التلاميذ (المعادن في الولايات المعدنية، الزراعة والبيطرة في الولايات الزراعية والرعوية، الصيد في الولايات الشاطئية).
8. اتخاذ إجراءات لتشجيع التوجه إلى التخصصات العلمية والتقنية في التعليم الثانوي، مثل منح التلاميذ المتفوقين والمتوسطين في هذه التخصصات منحة دراسية تكون ضعف المنحة التي تعطى للمتفوقين فقط من التخصصات الأدبية.
9. تدريس التخصصات الأدبية والإنسانية في التعليم العالي باللغة التي تعلم بها التلميذ قبل المرحلة الجامعية، على أن يتم توفير مذكرة أو كتاب في كل مادة باللغتين المعتمدتين في النظام التربوي، بحيث يتمكن كل طالب جامعي من الحصول على ترجمة لكل درس إلى اللغة الأخرى، مع اعتبار الترجمة داخل التخصص الواحد مادة أساسية في الامتحانات السنوية الجامعية.
10. تدريس التخصصات العلمية والتقنية في التعليم العالي في السنة الأولى باللغة التي درس بها الطالب مع توفير ترجمة مطبوعة في اللغة الأخرى لدروس كل مادة. أما في السنوات الأخرى فيتم تدريس هذه التخصصات بإحدى اللغات الأجنبية الحية (الفرنسية، الإنكليزية، الالمانية...) من أجل تسهيل متابعة هذه التخصصات في الجامعات الاجنبية بعد التخرج.
11. تنظيم التعليم الخاص بكافة مستوياته ليقوم بدوره الهام كمكمل للتعليم العام.
12. تنظيم الأنشطة اللاصفية في كل مؤسسة دراسية في الفترات المسائية لتنمية مواهب التلاميذ وتعزيز مهاراتهم وتمكينهم من التعارف فيما بينهم.
13. إنشاء مجلس وطني أعلى للتعليم يشرف على وضع وتنفيذ ومتابعة الخطط والبرامج التعليمية ويقدم المشورة للسلطات المختصة.
14. تصحيح الامتحانات الوطنية والمسابقات بإشراف هيئة وطنية مستقلة تكون هي المخولة لاقتراح المصححين والاشراف عليهم من أجل ضمان الشفافية والنزاهة منعا لأي محاباة أو تحامل من طرف المصححين من قومية معينة لصالح أو ضد تلاميذ قومية معينة.
15. العناية بالترجمة وإنشاء هيئة وطنية تختص بتطويرها، وفتح أقسام لها في كل المعاهد والجامعات لتذليل كل الصعاب الناجمة عن التعدد اللغوي في المجتمع، ومن أجل إثراء الثقافة الوطنية بكل ما هو جديد في مجال العلوم والمعارف والفنون.
16. تشييد البنى التحتية التعليمية من مدارس وجامعات ومعامل وتجهيزها بمختلف المعدات واللوازم لتكون أماكن مريحة وجذابة ضمانا لنجاح العملية التربوية.
17. منح التعليم بكافة مراحله المخصصات المالية التي يحتاج إليها باعتباره حجر الزاوية في النهضة الوطنية.
وفي هذا السياق ينبغي العمل على تحسين ظروف المدرسين ومنحهم الامتيازات المادية والمعنوية ووضع معايير موضوعية وشفافة لترقية المدرسين و تعيينهم من أجل تثمين مهنة التعليم وتغيير الصورة النمطية السلبية التي أصبح المجتمع ينظر بها إلى هذه المهنة جراء هيمنة الثقافة الاستهلاكية على الحياة اليومية.
ومعلوم أنه إذا أقرت مراجعة النظام التربوي للخروج من مأزق الازدواجية التعليمية، فلابد من مرحلة انتقالية يحدد الخبراء فترتها وآلياتها.
ثانيا: إدارة رشيدة ومؤسسات وطنية
تتم مراجعة التشريعات والنظم التي تحكم العمل الإداري والمؤسسات الخاصة لجعلها منسجمة مع النظام التعليمي التعددي الجديد ويتم السهر على تطبيق هذه النصوص والقطيعة مع كل الممارسات المنافية. وفي هذا السياق نقترح ما يلي:
1. سن قانون لحماية الثوابت الوطنية (الدين الإسلامي، الوحدة الوطنية، اللغات الوطنية، الديمقراطية التعددية) وتجريم ومعاقبة كل ازدراء أو نيل منها.
2. إعادة النظر في هيكلة الجهاز الحكومي لجعله منسجما مع المعطيات الوطنية (عدد السكان، أولويات التنمية، فرص التشغيل، مستوى الكفاءات...)، وفي هذا الإطار يمكن تقليص عدد الوزارات مع زيادة الإدارات والمصالح والاقسام والفروع في كل وزارة لتبسيط العمل وتوفير مزيد من المال والوقت والجهد.
3. فرض استخدام اللغة العربية في الإدارة والمؤسسات الخاصةعلى الأشخاص الذين تكونوا بها، وتخيير الأشخاص الذين تكونوا بغير العربية بين استخدام هذه اللغة أو استعمال اللغة التي تكونوا بها. ولتفعيل هذا الإجراء يتم إصدار نص قانوني يجرم مخالفته ويعاقب عليها ويبطل أثر أي وثيقة إدارية أو تجارية مخالفة.
4. تفعيل دور مفتشيات الشغل في جميع الولايات لضمان الشفافية وتكافؤ الفرص بين جميع الطالبين للشغل منعا لممارسة التمييز بينهم أثناء الاكتتاب أو في بيئة العمل على أساس لغة التكوين أو أي أمر آخر. ولابد من وضع نص قانوني لتجريم ومعاقبة كافة أشكال التمييز بين المواطنين في مجال التشغيل والاكتتاب.
5. العمل على تطبيق أسلوب الإدارة اللامركزية ما أمكن ذلك وخاصة في القطاعات الخدمية (التعليم، الصحة، الشؤون الاجتماعية، المياه، الكهرباء...) ومن شأن هذه اللامركزية أن تخفف إلى حد ما من الحاجة إلى الترجمة على المستوى الداخلي للجهات التي تسود فيها لغة وطنية واحدة، على أن تظل المراسلات مع الجهات الأخرى و مع الإدارة المركزية باللغة الرسمية أو لغة التكوين.
6. وضع أنظمة خاصة لكل أسلاك موظفي وعمال الدولة تحدد معايير الاكتتاب والترقية والتعيين من أجل ضمان العدالة والإنصاف في تسيير أشخاص كل قطاع، مما يحقق القطيعة مع كافة أشكال الوساطة والمحاباة والزبونيةوالعنصرية. وفي هذا الإطار ينبغي تشكيل لجنة متساوية الاطراف في كل قطاع تراقب القرارات الإدارية المتعلقة بتسيير الموظفين بدلا من الاكتفاء بلجنة واحدة لجميع القطاعات.
7. تثمين الوظيفة العمومية والمرفق العمومي من خلال منح الموظف العمومي ما يحتاجه من امتيازات مادية ومعنوية مع الرقابة الصارمة على أداءه وسلوكه المهني، وكذا من خلال العناية بالبنى التحتية للمرافق العمومية لجعلها موحية بهيبة الدولة وسيادتها.
8. التعاون بإيجابية مع منظمات المجتمع المدني المهتمة بتدبير الشأن العام (النقابات، الجمعيات، الصحافة...)، وذلك لتعزيز الشراكة وتفعيل الرقابة الشعبية على العمل الحكومي لمحاصرة الفساد ودحره.
9. تشكيل لجنة معتمدة للترجمة في كل مؤسسة عمومية أو خصوصية تتولى ترجمة الوثائق والتقارير من إحدى لغتي التكوين إلى الأخرى عند الحاجة، كما تقوم هذه اللجنة عند الطلب بتصحيح النصوص العربية لمن يرغب في ذلك.
وفي ظل التطور المتزايد لآلية الترجمة الألكترونية، فإن عمل هذه اللجنة سيكون أقل صعوبة مما كان عليه عمل الترجمة التقليدية قبل الثورة المعلوماتية.
تلك أفكار أولية متواضعة من وحي التأمل الشخصي والاطلاع على تجارب بعض المجتمعات في معركة النهوض. وأملي أن تحظى بدراسة المهتمين بالشأن العام لعلها تساهم في إيجاد «حل عادل ودائم ونهائي » للمسألة الثقافية التي ظلت مؤجلة منذ الاستقلال وما تفتأ بين الفينة والأخرى تثير بعض التوترات الاجتماعية جراء تناولها بصورة غير مدروسة ولا حكيمة من قبل بعض الساسة المرائين أو المثقفين الإقصائيين.


والله الموفق

14. ديسمبر 2016 - 13:35

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا