الإسلاميون في موريتانيا بين التحديات الذاتية والعراقيل الموضوعية/ محمدن ولد محمد غلام

altمع بداية ما أصبح يسمى "الربيع العربي" وعلى وقع تحوله المفاجئ / المتوقع إلى مد إسلامي جارف سجل وفاء الشعوب العربية المسلمة لهويتها وانتمائها لدينها واعتزازها بحضارتها من جهة، وثقتها في المشروع الإسلامي المعتدل وحَمَلته المناضلين من أجل رفعة أوطانهم من جهة ثانية.

مع بداية هذا الربيع أو المد أصبحت الأنظار تتجه - وبقوة لا ترحم - إلى إسلاميي موريتانيا الذين عرفوا لدى "إخوانهم" من إسلاميي الدول العربية بموسوعيتهم العلمية ورجاحة عقولهم وتوازن طرحهم السياسي، كما عرفوا لدى "إخوتهم" من الموريتانيين المطلعين على الشأن السياسي، بتوازن قادتهم وتكوينهم الفكري والخطابي المميز، وتماسك قواعدهم وجديتها في التلاحم مع توجهات حزبها، وبضآلة المحصلة السياسية (الانتخابية) مقارنة مع قدراتهم البشرية الهائلة في كمها وكيفها..  هذه الأضواء التي بدأت تسلط على إسلاميي موريتانيا ممثلين بحزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل" ازدادت سطوعا بلغ حد الإزعاج بعد التجارب الانتخابية التي عاشتها بعض دول الجوار العربي والتي تعيشها وستعيشها العديد من الدول العربية..  هل سيتحرر إسلاميو موريتانيا من أعباء إكراهات الحالة السياسية الموريتانية المعقدة والمقيِّدة، لقيادة مشروع سياسي ناضج ومنفتح تنصهر فيه جهود كل الموريتانيين المخلصين لإخراج بلادهم من عنق الزجاجة، أم أن نصيبهم من هذه اللحظة الفارقة سيقف عند بيانات الترحيب والتهنئة لإخوتهم في تونس أو المغرب أو غيرهما من البلاد التي نجح الإسلاميون فيها وسينجحون في تخطي الصعاب وتجاوز العراقيل بطرق سلمية حضارية ديموقراطية مكنتهم من كسب ثقة جماهير الأمة المتعطشة لكل ما هو جديد وجدي؟! 

 

اعتراف بجميل تواصل لابد من الاعتراف للمشروع السياسي الذي يقوده الإسلاميون في موريتانيا (تواصل) بخصال لا نكاد نلمسها عند العديد من الأحزاب السياسية الموريتانية؛ سواء العريقة منها أو العتيدة؛ من ذلك على سبيل المثال:  1- تماسك مشروع الحزب وتوازنه في الطرح؛ بالانطلاق من الخلفية الدينية والحضارية للأمة، والتعاطي مع الواقع بموضوعية والنظر إلى المسقبل باستشراف إيجابي.  2- اعتماد الحزب لسياسات جادة تكرس مبادئ الديموقراطية الذاتية والتداول على "السلطة" داخل الحزب قبل المطالبة بها في الدولة والجتمع. 3- وجود منظمتين؛ شبابية ونسائية تعملان بجدية وحيوية لا يشكك فيهما منصف.  4- المؤسساتية الموجودة داخل هذا الكيان السياسي ودورية انعقاد مجالسه وهيئاته والتي تنتهي – في الغالب - بمخرجات تطبعها الجدية ويميزها الانضباط. ومع الحديث عن هذه الإيجابيات لابد من الإشارة إلى مسألة في غاية الأهمية يغفل الكثير منا عن استحضارها عند تقويم العمل الإسلامي في موريتانيا؛ ألا وهي نجاح الإسلاميين في ترسيم الفكرة الإسلامية في الفكر الجمعي السياسي الموريتاني وتجاوز الحديث عنها كمنطلق لدى عامة الأحزاب السياسية الموريتانية؛ بمعنى أن إسلاميي كل من تونس والمغرب - على سبيل المثال – واجهوا أحزابا وهيئات ترفض الاحتكام إلى الإسلام وترى الحديث بأي مصطلح ذي دلالة إسلامية رجعية ً ومؤشرا خطيرا على التراجع عن "المكتسبات" الحداثية. أما في موريتانيا فإنني أزعم أنه يمكن النظر – نظريا على الأقل - إلى الأحزاب الموريتانية القائمة كلها كأحزاب إسلامية؛ ما دامت برابجها وخطاباتها تنضح بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية.. وهذا أمر يحسب للقائمين على هذه الأحزاب أولا، ثم للشعب الموريتاني المسلم الذي تنفق عنده السلعة الإسلامية أكثر من غيرها ثانيا، إلا أننا لا يمكن بحال من الأحوال أن نهمل الدور الحيوي والمفصلي الذي لعبه حَمَلةُ المشروع الإسلامي في ترسيخ هذا المنطلق. 

 

التحديات الذاتية على الرغم من وجود أرضية صلبة ومنطلقات واضحة في نصوص حزب "تواصل" ولوائحه ووجود تجارب عملية تؤكد أن الحزب حزب سياسي متميز بجديته ووضوح رؤيته التي نتفق معها – كموريتانيين أو نختلف – إلا أن ذلك لم يقف حائلا أمام وقوع الحزب في لوثة الخمول و"التقليدية" التي تسود الحياة السياسية - والحزيبة بالتحديد - في موريتانيا. الأمر الذي أفقد الحزب الكثير من حيويته وجاذبيته بل ومن مصداقيته للتعبير عن آمال قطاعات واسعة من الموريتانيين المتعطشين إلى وجود تجربة سياسية بالمعنى الحقيقي، تتعاطى مع الواقع بمرونة (دون إيغال في الواقعية المقيِّدة) وترنو إلى المستقبل بانفتاح موزون وإلى هوية الأمة وخصوصيتها باحترام واعتزاز.. وإذا كان من الإنصاف أن نسجل - هنا – اعترافنا بالنجاح الكبير الذي حققه تواصل بالنسبة للنقطتين الأخيرتين (الانفتاح الموزون ومراعاة هوية الأمة الموريتانية) إلا أن من النصح والمصارحة كذلك أن نسجل ضبابية – إن لم نقل تخبطا – للحزب في شان النقطة الأولى (التعاطي مع الواقع) مما أظهر الحزب وكأنه حزب منغلق لتوجه سياسي فكري محدد، يحسب له تماسكه ومبدئيته، دون أن ينجح في تقديم نفسه لمجموع الشعب الموريتاني كتجربة سياسية جادة جامعة وقادرة على إخراج البلاد من حلقتها السياسية المفرغة. من ذلك على سبيل المثال: 1- التعاطي مع الشأن السياسي انطلاقا من إكراهات الحالة الموريتانية التي تفرض مراعاة الانتماءات العرقية والجهوية والقبلية في توازنات تولي المسؤوليات داخل الحزب وفي الترشيحات للتجارب الانتخابية التي يخوضها كذلك. بينما كان المفترض في تجربة سياسية جادة مثل "تواصل" أن تعرض صفحا عن مثل هذه المعطيات وأن تعتمد مبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب، مع الاستعداد لدفع الثمن المؤقت لهذه الجرأة الصادقة في سبيل النجاح والمصداقية على المدى البعيد. 2- الركون إلى التجارب والخبرات السياسية التي اكتسبها قادة وكوادر الحزب أثناء نضالهم في الأحزاب الموريتانية قبل حصول التيار الإسلامي على حزب معترف به؛ علما بأن منطلقات هذه الأحزاب "الشخصانية" في مجملها، ومخرجات تعاطيها مع الشأن السياسي لا تتماشى مع منطلقات حزب يراد له أن يشكل بوتقة جدية لجهود المخلصين من أبناء الوطن للعبور بموريتانيا إلى بر الأمان. 3- الارتهان للمنطلقات التقليدية في ممارسة الشأن السياسي، وعدم النظر إلى التجارب السياسية العالمية والإقليمية التي تؤكد أن الضعيف لا يظل ضعيفا للأبد وأن القلة "الجادة" لا تلبث أن تشكل كثرة جارفة، وأن الأوضاع الحاكمة بتزوير إرادة الناخبين - أوالتحكم في توجهاتهم على الأقل – مآلها إلى زوال قد يكون أقرب مما يُتصور. 4- الانطلاق من تصور مفاده أن واجهة الحزب يجب أن تكون من الشخصيات المعروفة بنضالها وإسلاميتها ورمزيتها.. ومع أنني لا أشكك في رمزية أوإسلامية أو نضال أي من قادة هذا الحزب، وحاجة مشروعه إلى خبراتهم وتؤدتهم وحكمتهم.. إلا أنني أرى أن الاستفادة من هذه الطاقات لا تتوقف على وجود أصحابها في الواجهة على الدوام، الأمر الذي يعطي إشارات خاطئة للمتلقي بأنه أمام حزب موريتاني بامتياز. يتمسك فيه الزعيم الأوحد أو الزعماء "الأوحدون" بالزعامة حتى النهاية. 

 

كسب الرهان كسب الرهان يبدأ بتغيير النظرة النمطية التي ينظر بها الشارع الموريتاني لأحزابه السياسية باعتبارها أحزاب أشخاص ومصالح ولوبيات.. وفي رأيي أن تغيير هذه النظرة يتطلب من إسلاميي موريتانيا اتخاذ الخطوات العملية العاجلة التالية: 1- تغيير قيادة الحزب وإسناد رئاسته إلى أحد شباب الحزب المؤهلين (ممن هم دون الأربعين) وإسناد أمانته العامة بل وأماناته المهمة كلها إلى شباب الحزب، والإبقاء على الرموز والخبرات في الصفوف الخلفية؛ للمشورة والتوجيه والإرشاد.. إن هذه الخطوة الشجاعة سترسل برسالة صادمة إلى الشارع السياسي الموريتاني الجاد مفادها أن موريتانيا اليوم أمام حزب سياسي حقيقي يقوم على الحيوية والجدية والتجديد.. قد يقول قائل (وهو محق) إن لوائح الحزب تتضمن تحديد تولي المناصب القيادية في الحزب بفترتين، في خروج عن المألوف في الأحزاب السياسية الموريتانية. وأقول إن في الأمر محمدة تذكر للقائمين على هذا الحزب فتشكر، غير أن انتظار تحققها واقعا سيفقد الحزب – والشارع الموريتاني الجاد من خلفه – فرصا ذهبية واقتناصا للحظات تجعل المشاريع السياسية الجادة على موعد مع التاريخ. 2- تبني هذه القيادة الشابة لخطاب سياسي واضح ومتميز! لا يذوب في مواقف منسقية المعارضة ولا يحابي أحزاب الموالاة.. خطاب يقف إلى جانب المظلوم والمحروم ويعبر عن هموم الموريتانيين ويركز على التواصل معهم وتوعيتهم بحقوقهم على هذا الوطن وواجباتهم تجاهه. والتركيز على هذا النمط من التواصل (التوعية والتثقيف) بتنظيم حملاتِ توعية وقوافل ِ تثقيف تتواصل مع شرائح المجتمع الموريتاني لهذا الهدف العام، بدل التواصل الانتخابي والتسويق للحزب وتوجهاته التي سيدركها الواعي المثقف دون الحاجة إلى عرضها عليه. 3- تعيين ناطقين "إعلاميين" باسم الحزب تكون مهمتهم إبراز توجهات الحزب الجديدة ومركزية نضج الشارع السياسي الموريتاني ووعيه في خطابه، حتى ولو كان ذلك على حساب الدعوة للانتساب للحزب والتصويت لصالحه.. ذلك أن مجتمعا واعيا معاديا خير من مجتمع مائع مصادق، وقدما قيل: إن عداوة العاقل خير من صداقة الأحمق. والله الموقف وهو الهادي إلى سواء السبيل. 

28. نوفمبر 2011 - 10:37

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا