في انتظار المدير..! / حبيب الله ولد أحمد

altعندما سافر المدير تعطل كل شيء في المقر، وأصبحت المؤسسة مشلولة تماما...غاب بغياب المدير خبز الصباح و حليبه وجلساته ونقاشاته...أغلق مكتبه ليصبح نشازا داخل المقر فيبدو لمن يحاول الاقتراب منه مجرد "قطعة أثرية" أو "معبد مقدس"، لا يسمح لأحد بلمسه، أو حتى النظر اليه..

سادت الفوضى كل المؤسسة... فتوقفت الخدمات، وتغيب المحررون، واختفى رؤساء التحرير...اختفى المحاسب و"الموزع"...والمدير المنتدب، ورئيس مجلس الإدارة، والمتدربون، وحتى باعة الرصيد، والمتسولون، والمارة من الشوارع المؤدية للمقر... وضع المقر كله على وضعية "الصامت"...غابت الضوضاء المعهودة، وذاب كبار زوار المؤسسة من رجال أعمال وصحافة ومسؤولين وعسس ومراجعين...توقفت خدمات الصرف الصحي... وأغلقت المرافق، وختم على باب "المطبخ" بالشمع الأحمر... 
أصبح المقر شبيها بمدينة تحت أحكام الطوارئ والأحكام العرفية، فالممرات مغلقة تماما داخل المقر، والمكاتب تلتحف الفوضى، مابين باب يصفق بفعل الريح، أو باب موصد تزحف خيوط العنكبوت على مفاصله الخشبية والحديدية..
حتى أجهزة الحاسوب تعطلت، وبدت منهكة بدون صيانة ولا تشغيل، وغابت خدمات "الانترنيت" وباستثناء جهاز يرغم شاشته على التوقف التلقائي، أو إعادة عبارة ترحيب واحدة عشرات المرات فلا يوجد أي أثر لعمل فني في المقر..
الذين مكثوا وحدهم في المقر مرغمين لدواعي العمل أو الإقامة أصبحوا انطوائيين منكمشين على أنفسهم يرددون عبارة واحدة، لكل من يطرق بابا، أو يتصل هاتفيا "المدير غائب"،عبارة "مسجلة" في الجميع، تماما كالرسالة الصوتية التي تشير إلى إغلاق الهاتف...
عندما يكون على شخص أو هيئة ترك رسالة بالمقر، فإن الطريقة الوحيدة هي رميها باستهتار، وبلامبالاة،وأحيانا من "ثقب الباب"، ودون انتظار توقيع بالاستلام، فبغياب المدير غابت المؤسسة نصا وروحا...غابت توقيعاتها وطوابعها و"سكرتيريتها"..
وبدا ذلك أمرا طبيعيا، فالمدير هو كل شيء في المقر..هو الآمر والناهي، عنده "خزائن" المقر و"أسراره"، إليه يرد علم "الاشتراكات" و"الإعلانات" و"الدعومات" و"المبيعات" و"التشجيعات" و"الإكراميات" و"الهدايا" و"الحبوسات" و"الأوقاف" و"الدعوات" العامة والخاصة و"التغطيات" و"التكوينات" و"السفريات" الداخلية والخارجية و"المهام" و "المؤتمرات" و"الملتقيات" و"الندوات" و"الافتتاحات" و"الاختتامات"، السياسية والأمنية والاجتماعية، و المالية والصحفية،والفنية والمهنية، "الاستقبالات" و"المقابلات"، و"العلاقات" العامة والخاصة، يمركز العمل في يديه، فلا كأس شاي دون إذن المدير، ولا ورقة توقع أو "تسود" أو "تبيض" دون إذن المدير ولا حاجة - مهما كانت خصوصيتها- تقضى في المقر دون إذن المدير..لا مكتب يفتح، لا نقاش يرتفع،لا مصورة تشحن،لا آلة تسجيل، لا ساحبة تعمل، لا جهاز يتم تشغيله دون إذن من المدير..!
ليس المدير وحده من يعمل في المؤسسة(ورقيا) فمعه عشرات الأشخاص والمصالح والوظائف التي هي مجرد أسماء بلا مسميات، وقطع ديكور و "فزاعات" بعضها ل"الاستهلاك" المحلي، وبعضها ل"الاستهلاك" الخارجي...ليس بمقدور أي عامل ممارسة حقه حتى في "العطاس" دون إذن المدير...كل شيء يخضع لأوامر المدير...من دخول المرحاض وحتى كتابة خبر أو تعليق أو التقاط صورة..!
والمدير مثل كل المديرين لديه "حاشية" و "شبيحة" و"بلطجية" تكثر أيام حضوره وتختفي بغيابه...وهو أمر طبيعي، فهي "حاشية" (محشوة) لا ترى في العالم سوى المدير، تضحك لضحكه، وتنفعل بانفعاله، وتحضر بحضوره، و تختفي باختفائه، على طريقة "أمنين اتكح النين انكح/ وامنين اتنين النين انين"
كل العمال عصبيون ومتوترون بغياب المدير بعضهم "استنسر" بخجل ونفخ أوداجه متوهما أن بمقدوره أن يملأ ربع فراغ غياب المدير، ولكنه اصطدم بحقيقة على الأرض تقول إنه حتى "الفئران" في المقر لا ترقص عندما تغيب "القطط"..يملك المدير مهابة خاصة ليست وراثية طبعا، لكنها مستمدة من أنه المصدر الوحيد للخوف والطمع، فهو من يملك "العصا" و"الجزرة"، ففي غيابه تحل أرواح أخرى "شريرة" أو "طيبة" مكانه، فتملأ المقر "حرسا شديدا وشهبا"...لابد أن لجدران المقر آذانا، فالمدير من أي نقطة من العالم يتابع كل صغيرة وكبيرة في المقر، وكأنه اصطحب معه جهازا للتحكم من بعد، أو "ريموت كوتترول" خاص بالمقر ليتأكد من أن الوضع متجمد حد الصقيع في انتظار وصوله...لقد غرس فينا – لاشعوريا- قناعة غريبة بأنه لا وجود لنا بدونه، نحن القطيع وهو "الفحل"، نحن "الذنب" وهو "الرأس"...لا مال لنا بدون ماله، لا شخصية لنا بدون شخصيته، لا مبرر لوجودنا بدونه...ثقافتنا فضلة من ثقافته...حماقاتنا تطور طبيعي لحماقاته، غباؤنا جزء من غبائه...قوتنا مستمدة من قوته، وضعفنا نتيجة طبيعية لسيطرته..مديرنا هو مؤسستنا، ومؤسستنا هي مديرنا،وكل ما يفعله فينا وبنا وخلفنا وأمامنا هو من باب "تصرف المالك في ملكه"...
في انتظار عودة المدير نذوب - ومعنا المؤسسة كلها - كقطعة ملح في ماء فاتر...
في بلد ما توجد وضعية شبيهة بوضعية مؤسستنا...أين يوجد ذلك البلد؟...لا تبتعدوا كثيرا...فالبلد أقرب إليكم من حبل الوريد..!!

11. يوليو 2011 - 8:05

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا