في شعراء البلاط (ح 4) / الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

وفي عصر الثورة العربية الحديثة: ثورة الضباط الأحرار في مصر، وإعلان الجمهورية فيها، وجلاء الإنجليز عنها، وتأميم قناة السويس، وهزيمة العدوان الثلاثي، وسقوط حلف بغداد، وقيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا، واندلاع ثورتي الجزائر واليمن.. الخ، بزغت نابتة شعرية عربية ثورية وحدوية جديدة أفرزتها و"أنطقتها رماح قومها": صالح جودت، عزيز أباظة، كامل الشناوي،

 الشيخ محمد سالم ولد عدود، نزار قباني، مفدي زكرياء، محمود درويش، أحمدو ولد عبد القادر، هاشم الرفاعي، عبد الرزاق عبد الواحد.. وآخرون.
وكان صالح جودت وعزيز أباظه وكامل الشناوي ونزار قباني والشيخ محمد سالم ولد عدود وأحمدو ولد عبد القادر وعشرات غيرهم "شعراء بلاط" بالمفهوم العام لدى البعض؛ أي أنهم كانوا يؤيدون تلك الثورة وقائدها، ويتغنون بأمجادها ومنجزاتها، وبالوحدة العربية التي تسعى إلى تحقيقها.. وبهذا المعنى كان ذلك الجيل من الشعراء - طوبى لهم- "شعراء بلاط جمال عبد الناصر" وسادة الشعر والشعراء!
كانت قصائد صالح جودت تتفجر ثورة وقومية واستنهاضا، وتشيد بالرئيس جمال عبد الناصر كتلك التي مطلعها:
لا تقولوا غدا فعمري قليل ** هده اليأس والعناء الثقيل.
فقد كانت تمجد القائد العربي الذي ألهم الأمة العربية وشعوب العالم ووحدها وقاد معاركها ضد الاستعمار والصهيونية والرجعية وغير وجه التاريخ:
إنه القائد الذي عاهد اللـــ**ـــه فأوفى وعهده المسؤول.
أما الشاعران الكبيران عزيز أباظة وكامل الشناوي فيكفي في هذا المقام ذكر قصيدتيهما الرائعتين في معجزة السد العالي، اللتين غنتهما أم كلثوم وهما:
"على باب مصر" و"كان حلما فخاطرا فاحتمالا"
ومن هذه الأخيرة لعزيز أباظة نقتطف ما يلي:
كان حلما فخاطرا فاحتمالا ** ثم أضحى حقيقة لا خيالا
عمل من روائع العقل جئنا ** ه بعلم ولم نجئه ارتجالا
إنه السد فارقبوا مولد السـ** ـد وباهوا بيومه الأجيالا
يفتح الرزق وهو سد فينسا ** ب جنوبا في أرضنا وشمالا
ويشيع الحياة تنبض نبتا ** يغمر الجدب نوره والتلالا
حقق المعجزات عزم جمال ** فاحمدوا الله أن حباكم جمالا
هو والنيل واهبا السد هذا ** سال تبرا وذاك فاض نضالا
حين ألوى بعهده مقرض الما ** ل وحاد الصديق عنا ومالا
واستدار التاريخ ينظر هل يسـ** لم الليث أم يصول، وصالا
قال: إني بانيه وأعتز باللـ**ـه وبالحق فاسترد القنالا
قالها من صميم أفئدة الشعـ**ـب فكانت أقواله أعمالا
وإذا هبت الشعوب إلى الغا ** يات شقت لِنَيْلِهن الجبالا.
وفي أقصى ثغر عربي محتل على ضفاف الأطلسي لامست صيحة تأميم قناة السويس والتصدي للعدوان الثلاثي سَمْع فتى عربي بدوي، لكنه شاعر وثائر؛ هو الشيخ محمد سالم ولد عدود فهب يحدو ثورة العرب الجديدة ويذكر أمجادها وأمجاد قائدها في قطعة شعرية جميلة هي باكورة الشعر الثوري والقومي في بلانا:
ومدلة بالحسن قلت لها: اقصري ** إن الجمالَ جمالُ عبد الناصر
بطل تفرد مصره في عصره ** بجماله من بين كل معاصر
وقد شفع تلك القطعة الرائعة الرائدة بقطع وقصائد أخرى نذكر من بينها مثلا رائعته التي مطلعها:
ليس للرجعي فينا من نسب ** كل رجعي دَعِيٌّ في العرب
ومنها في تحليل الوضع السياسي يومئذ والتعريف بطبيعة العرب وحتمية انتصار ثورتهم مهما طال الليل:
لم نزل في الشأو نمشي قدما ** ليس يثنينا لغوب أو نصب
كلما جزنا ثنايا أرب ** بحثيث السير تقنا لأرب
قد رجونا مظهرا فوق السما ** لا نرى الجعدي إذ قال كذب
سوريا قد مزقت وحدتنا ** بانفصال لكن الوعد اقترب
قاسم أقسم لا يصحبنا ** سوف يرضى قاسم بعد الغضب
وسعود وحسين معنا ** في لجاج وجدال وعتب
سحب قد عكرت أجواءنا ** سنرى الشمس إذا الغيم ذهب
وعلى خطى الفتى الشيخ والشيخ الفتى سار فتى عملاق ثائر آخر هو الشاعر أحمدو ولد عبد القادر الذي يقول من بين قصائد قومية كثيرة في ذكرى هزيمة العدوان الثلاثي:
كتب النصر للزعيم وشعب ** يعشق المجد لا يهاب الحماما
آه لو أحضر الصراع فأحيا ** لحظات بها الفؤاد استهاما
فأرى النصر كالقلاع وكالنو ** ر وكالحق يصرع الأصناما
يوم عادت لأمتي ذكريات الـ**ـعز تاجا لفخرها ووساما
وانبرت ترقص السنا بنشيد ** أبدي على الحقيقة قاما
وطن العرب منذ قام جمال ** ما توخاه وحدة لا انقساما
يا بني مصر يا سموم الأعادي ** يا رحيقا لقومهم وسلاما
هاهنا حيث تنتهي أرض قومي ** بشطوط المحيط كنت غلاما
يحرق الدمع مقلتي حماسا ** إذ نصرتم على العدو وخاما
أي معنى ترونه خلف هذا الـ ** ـدمع والدمع يستهل جماما؟
وفي حقبة من تاريخ ثورة العرب الحديثة أصبح نزار قباني، ذلك الدمشقي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بعد المتنبي وشوقي "شاعر بلاط" الثورة العربية والقضية العربية في القاهرة ودمشق.. بعد أن كان صريع غوان وشاعرا للمرأة والحب. ومن أسباب هذا التحول العجيب اكتواؤه بذل هزيمة حزيران 1967 الذي جعله يصرخ مفجوعا في وجه حبيبته على غير عادته:
كيف أهواك والحمى مستباح ** أمن السهل أن يحب السجين؟
كيف أهواك حين حول سريري ** يتفشى اليهود والطاعون؟
ولعلاقة نزار ببلاط الزعيم جمال عبد الناصر حكاية بديعة تتلخص فيما يلي:
بعد هزيمة حزيران كتب نزار قباني قصيدته الرائعة "هوامش على دفتر النكسة" يرمي من خلالها إلى تقديم مساهمته في تشخيص أسباب الهزيمة حتى يستطيع أولو أمر الأمة التغلب عليها وخلق ظروف النصر الممكن. ولكن المنافقين والمتملقين في بلاط الثورة بمصر حرفوا القصيدة عن مواضعها وشيطنوا نزارا لحد اتخاذ قرار بمنعه من دخول مصر. ولما علم الرئيس جمال عبد الناصر بذلك طلب نسخة من القصيدة، وبعد الاطلاع عليها ألغى الإجراءات الظالمة في حق الشاعر واستدعاه لزيارة مصر مكرما. فكتب فيه الشاعر قصائد عديدة نذكر منها - على سبيل المثال لا الحصر- تلك التي كتبها بعد وفاته: "إليه في يوم ميلاده" وفيها يقول:
زمانك بستان وعصرك أخضر ** وذكراك عصفور من القلب ينقر
ملأنا لك الأقداح يا من بحبه ** سكرنا كما الصوفي بالله يسكر
دخلت على تاريخنا ذات ليلة ** فرائحة التاريخ مسك وعنبر
وكنت فكانت في الحقول سنابل ** وكانت عصافير وكان صنوبر
لمست أمانينا فكانت جداولا ** وأمطرتنا حبا ولا زلت تمطر
أحبك لا تفسير عندي لصبوتي ** أفسر ماذا؟ فالهوى لا يفسر!
أتسأل عن أعمارنا؟ أنت عمرنا ** وأنت لنا المهدي أنت المحرر
وأنت أبو الثورات أنت وقودها ** وأنت انبعاث الأرض أنت التغير
رفيق صلاح الدين هل لك عودة ** فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
يحاصرنا كالموت ألف خليفة ** ففي الشرق هولاكو وفي الغرب قيصر
يثير حزيران جنوني ونقمتي ** فأغتال أوثاني وأبكي وأكفر
وأترك خلفي ناقتي وعباءتي ** وأمشي أنا في رقبة الشمس خنجر
وأصرخ يا أرض الخرافات أحبلي ** لعل نبيا آخرا سوف يظهر.
وفي نشوة نصر أكتوبر المجيد كتب نزار قباني نونيته الرائعة "ترصيع بالذهب على سيف دمشقي" التي يقول فيها:
جاء تشرين يا حبيبة عمري ** أحسن الوقت للهوى تشرين
ولنا موعد على جبل الشيـ**ـخ كم الثلج دافئ وحنون
هزم الروم بعد سبع عجاف ** وتعافى وجداننا المطعون
وقتلنا العنقاء في جبل الشيـ** ـخ وألقى أضراسه التنين
صدق السيف وعده يا بلادي ** فالسياسات كلها أفيون
صدق السيف حاكما وحكيما ** وحده السيف يا بلادي اليقين
وطني يا قصيدة النار والور ** د تغنت بما صنعت القرون
يا دمشق البسي دموعي سوارا ** وتمنَّيْ فكل صعب يهون
اركبي الشمس يا دمشق حصانا ** ولك الله "حافظ" وأمين.
وكان شاعران عظيمان من شعراء هذه الحقبة "شاعري بلاط" أيضا وهما:
- شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكرياء؛ فهذا الشاعر الذي حدا الثورة الجزائرية حتى انتصرت، وغنى لها "اللهب المقدس" وكتب نشيدها الخالد، وظل يقف معها بوفاء عندما واجهت مؤامرات وأزمات داخلية وخارجية مثل صراع الأجنحة وحرب الحدود، كان شاعر بلاط الثورة والرئيس أحمد بن بلله. ومما قاله في ذلك قصيدته التي ألقاها أمام الرئيس أحمد بن بلله بحضوري فاتح نوفمبر 1963 والتي مطلعها:
لوجهك بعد الله أعنو وأسجد ** وإياك يا شعب الجزائر أعبد
وبوركت تربا ضم مليون خالد ** كأنك من أرواحهم تتوقد
إلى أن يقول فيها:
وإن تسألوني في الحدود ** فإنني سألتكم بالله أن لا تحددوا
ذروها كماء البحر ما في عبابه ** حدود ولا خصم به يتوعد
وما خاب فلك يهتدي بدموعه ** إذا كان ربان السفينة أحمد
وقد زار مفدي زكرياء موريتانيا وأنشد أجمل قصائده في محافلها الأدبية، فعرفه وأحبه يومئذ أدباء ومثقفو موريتانيا، وزاد من قدره عندهم ولاؤه للثورة وللرئيس أحمد بن بلله.
- وشاعر عراق صدام حسين عبد الرزاق عبد الواحد، الذي تغنى بعز ومجد العراق في أوج ثورته ونهضته، وامتشق سلاح الكلمة دفاعا عن وطنه في مواجهة الاستعمار الأمريكي والصهيونية والرجعية والشعوبية، وظل وفيا لبلاده وثورتها وقيادتها. وقد زار موريتانيا بعد احتلال العراق وغنى في محافلها أعذب قصائده، فعرفه وأحبه وقدره حق قدره أدباء ومثقفو موريتانيا الذين زاده عندهم علوا كبيرا التزامه بقضايا أمته وكونه شاعر بلاط الرئيس الشهيد صدام حسين.
ومن روائع شعر عبد الرزاق عبد الواحد قصيدة "يا صبر أيوب" الشهيرة، ومطلعها:
قالوا وظل.. ولم تشعر به الإبل ** يمشي، وحاديه يحدو.. وهو يحتمل
وقصيدة:
كبير على بغداد أني أعافها ** وأني على أمني لديها أخافها
يتبع

 

22. مايو 2017 - 12:23

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا