قطاع الصيدلة..عودة الفوضى..!! / حبيب الله ولد أحمد

altيعيش قطاع الصيدلة هذه الأيام أسوأ فتراته على الإطلاق، رغم الجهود المشهودة التي بذلها د.حمود فاضل المدير الحالي للصيدلة والدواء بوزارة الصحة في بداية مأموريته، حيث نجح - إلى حد ما - في وضع القطاع لأول مرة على سكة الإصلاح الحقيقي، عندما استطاع -لبعض الوقت- تنظيم الصيدليات.

وإغلاق المتاجر غير المرخصة، ومصادرة وإعدام أطنان من الأدوية والمستحضرات الطبية المزورة والمنتهية الصلاحية، مع إقدامه الشجاع على إغلاق عشرات العنابر والسراديب والمخازن السرية ،التي كان سماسرة سوق الأدوية السوداء يخبئون فيها بضائعهم المشبوهة بعيدا عن أعين الرقباء. وتوجت جهوده بإقرار القانون المنظم لقطاع الصيدلة من طرف البرلمان، وهو قانون أثار جدلا واسع النطاق وقت الإعلان عنه، إذ أنه لم يحظ بإجماع الفاعلين في القطاع من صيادلة، وموزعين، وموردين، ومستثمرين، وأطباء، وممرضين، وباعة، لأن كل فئة من هؤلاء الفاعلين كانت تحاول جر القانون ليصبح في مصلحتها الخاصة دون البقية، وهذا ما يفسر الصعوبة البالغة التي واجهها تمريره في البرلمان، وموجة الاحتجاج الواسعة ضد إقراره والتي ركبها فيما بعد بعض أولئك الفاعلين. ويحسب للدكتور حمود فاضل نجاحه في إلزام العديد من الصيدليات والعيادات بتوفير الحد الأدنى من المعايير الدولية المفترض توفرها في الصيدليات والعيادات، مثل الحصول على ترخيص رسمي، واعتماد مسؤولين فنيين للإشراف على تلك الصيدليات والعيادات مستوفين لشروط التخصص والكفاءة الأكاديمية، والقابلية القانونية، إضافة إلى الاهتمام بالمقرات وتزويدها بالتكييف الهوائي المناسب، مع فرض قواعد النظافة الصارمة بالنسبة للواجهات المضيئة، والدرج المخصصة لعرض الأدوية وتخزينها ، ووضع نظام لحفظ الأدوية التي يتطلب حفظها وجود مبردات ذات مواصفات خاصة. واستطاعت إدارة الصيدلة والدواء- إلى ذلك- القضاء على الكثير من المتاجر الفوضوية للأدوية، والحد من فوضوية منح التراخيص للصيدليات والعيادات، وإيقاف طوفان المستودعات الصيدلية التي شاع استعمالها نظرا لتوفر فرص شراء و بيع تراخيصها المزورة في السوقين السوداء و"البيضاء"!! جهود إدارة الصيدلة والدواء، بعثت- في بدايتها منذ حوالي سنتين- أملا لدى المواطنين الموريتانيين، بتنظيم قطاع يمس حياتهم اليومية ومستقبل صحتهم، وهو قطاع ظل مسرحا للفوضى والمضاربات والتلاعب الفاضح بمصلحة الوطن والمواطن. اليوم تبدلت الصورة، وعادت "الأغوال" و"الديناصورات"- من كبار الموردين، والمستثمرين، والموزعين، والانتهازيين من الصيادلة، والأطباء، والممرضين، والباعة، والدخلاء على القطاع من مواطنين وأجانب- لتثبت قوتها وقدرتها على القفز فوق القانون والتلاعب به، وتجاوز كل محاولات الإصلاح، وإعادة الأمور في القطاع كله إلى مربع الفساد والفوضى "غير الخلاقة". نعم.. عادت الفوضى المنظمة لتعصف بالقطاع، وبعودة الفوضى عادت عشرات المستودعات  والصيدليات الوهمية ،غير المرخصة أصلا ولا فرعا، حيث يمكنني القول -باطمئنان تام- انه من بين كل خمس صيدليات في العاصمة- لا أتحدث هنا عن الداخل فالداخل تابع للعاصمة ومن الأكيد ان قطاع الصيدلة فيه غارق في الفوضى منذ أمد بعيد -توجد صيدليتان غير مرخصتين، ومن بين كل عشرة مستودعات توجد ستة غير مرخصة!! لقد خرج الوضع عن نطاق سيطرة الإدارة بشكل مفاجئ وذلك أمر طبيعي، فالذين يقفون وراء  الفوضى اقوي من الإدارة والوزارة، بل إنهم أقوى من الدولة برمتها- ماديا ومعنويا -لدرجة أن من بينهم من يحيط نفسه بخطوط حمراء سياسيا وأمنيا وماليا، لا يمكن لأي كان- مهما كان منصبه ومهما كانت مكانته- تجاوزها أو مجرد التفكير بذلك. عادت الفوضى بقوة ولدينا الأدلة الناطقة بذلك..ففي مقاطعتي الرياض وعرفات- مثلا- ظهرت فجأة عشرات الأسماء والمسميات لصيدليات ومستودعات ومتاجر أدوية، تعمل دون ترخيص، وبعيدا عن أعين الإدارة، وتبيع الأدوية وبزيادة تصل إلى مائتين بالمائة أحيانا عن السعر الطبيعي، وتزدحم غالبا عشرات هذه الصيدليات والمستودعات والمتاجر في مساحة لا تتجاوز أحيانا مائة متر، تمكن ملاحظة ذلك الازدحام - بشكل لافت- في منطقة ثانوية عرفات والمقطع الواقع بينها وبين" الدايات الثلاثه" ،وفى مقاطعة الرياض تمكن ملاحظة الظهور المفاجئ لعشرات متاجر الأدوية في المقطع الواقع بين الكلم8والكلم 10بنفس المقاطعة. أما في مقاطعات العاصمة الأخرى فحدث ولا حرج، ففي دار النعيم، وتيارت، وتوجنين، تم افتتاح عشرات المتاجر والعيادات على مرأى ومسمع من الجميع، بدون الحصول على التراخيص، أو مراعاة الحد الأدنى من المعايير المتبعة- تنظيميا وقانونيا- والتي ينبغي توفرها فى الصيدليات والمستودعات والعيادات الطبية المعتمدة. وبالنسبة للسبخة، والميناء، ولكصر، فالفوضى أكثر انتشارا وقوة، بسبب دخول الأجانب على الخط، وانغماسهم في المتاجرة بالأدوية- المزورة أحيانا- مع محاولاتهم المتكررة لإقامة مصانع لتركيب الأدوية المزورة بالتعاون مع بعض السماسرة المحليين في القطاع.  ولعل مقاطعة تفرغ زينة أن تكون المقاطعة الوحيدة في العاصمة- وربما في البلاد كلها- التي تسير فيها فوضى قطاع الصيدلة الحالية بوتيرة أقل ربما لأنها مقاطعة يقطنها صناع القرار والنخبة الفاعلة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وتنتشر فيها الأعين والآذان المفتوحة على كل شيء!! لقد بلغ سيل هذه الفوضى الزبى، وأصبحت خارجة عن نطاق سيطرة إدارة ضعيفة مقصية على  مستوى صنع القرار في وزارة الصحة الوصية، التي يعتقد القائمون عليها حاليا أن العنتريات والقصائد الرومانسية، وأناشيد الأطفال ومحفوظا تهم، تكفى لتوفير غطاء صحي حقيقي للمواطنين الموريتانيين، المفجوعين هذه الأيام بانتشار وباء حمى الوادي المتصدع!! وبالعودة إلى الأمثلة الكثيرة على الفساد الذي يعصف بقطاع الصيدلة أدعو أي مواطن، أو مسؤول معني بهذا القطاع- يود الوقوف بنفسه على حجم هذه الفوضى- إلى التجول ليلا، أو نهارا بين الصيدليات في العاصمة وضواحيها لشراء أي دواء، مهما كان، ليكتشف ميدانيا حجم المضاربة وجحيم الفوضى، فكل صيدلية ستعطيه سعرا خاصا بها، لدرجة أن الفرق أحيانا- يصل إلى خمسمائة أوقية بين صيدليتين لا تبعد إحداهما عن الأخرى اكثرمن200متر!! ولقد قمت بنفسي بهذه التجربة، وصدمت مرات عديدة بحجم المضاربة والتلاعب الفاضح بمصالح المواطنين وأرواحهم المرتبطة بالأدوية المعروضة فى تلك الصيدليات والمستودعات، ومستوى انعدام الأمانة والمسؤولية لدى بعض القائمين على عرض وتوزيع المواد الدوائية- أقولها بمرارة وعلى مضض- فالربح والربح وحده هو الهدف بالنسبة لهم، ولتذهب الإنسانية والمواطنة وحتى القيم الدينية والأخلاقية إلى الجحيم.. !! وإذا كنت أنا المنتمى للعائلة الصحية باعتباري ممرضا تقنيا في الأشعة، والمعروف فى ميدان الصحافة الحرة لا أستطيع شراء دواء إلا بسعر خيالي- وأنا الذي أعرف معظم الناشطين في قطاعي الصحة و الصيدلة وهو ما يفترض أنه يتيح لي تسهيلات خاصة- فما هي وضعية المواطن البسيط المنسي الفقير المريض الذي لا يعرف أحدا ولا يعرفه أحد؟! ومن الأكيد أن الفوضى تعبر عن نفسها بقوة، والمضاربات تبلغ ذروتها يومي الجمعة والسبت، حيث يخلد معظم المشتغلين بالقطاع إلى الراحة لأسباب شخصية- من الخطأ الاعتقاد بأن لها علاقة بنظام المناوبة الذي حاولت الإدارة المعنية – عبثا- فرضه على الصيدليات والمستودعات، فهما يومان مأساويان بكل معنى الكلمة بالنسبة للمواطنين المحتاجين لشراء أدوية ولو عن طريق الاستعجال، فالبحث فيهما عن الأدوية لدى الصيدليات والمستودعات، التي ينتهز أصحابها فرصة غياب زملائهم في الصيدليات والمستودعات الأخرى برسم الراحة، ليضاعفوا أسعار الأدوية، لتصل إلى مستويات غير معقولة، لا يملك المواطن العادي- معها- إلا أن يخرج من الصيدلية ،أو المستودع، حزينا كسيرا مهموما وهو يجد نفسه أمام مرض، و ألم أرحم به من هؤلاء الذين يحرمونه- تحت يافطة ليبرالية عمياء رعناء، وبصفاقة وانتهازية ووحشية- حقه في الحصول على مسكن ألم، أو مضاد التهاب أو تقلص، أو مضاد حيوي، يفترض أن يكون رخيصا على الأقل إن لم يكن مجانيا!! وحتى لو تحمل المواطن قسوة ثمن الدواء، وباع كل ما يملك وما لا يملك، في سبيل شراء المادة الدوائية، فانه- في الغالب-لن يجد إلا مادة دوائية مزورة، لا تسكن ألما ولا تكافح التهابا أو إصابة جرثومية، ولا حتى تضمد جرحا..مادة دوائية مغشوشة، تربك الأطباء والممرضين، ويسبب تعاطيها تفاقما في الحالات المرضية خاصة السرطانات بمختلف أنواعها، والفشل الكلوي والكبدي وهي حالات تزايدت محليا في السنوات القليلة الماضية، وبدرجة مثيرة للرعب، وهي مع ذلك تتسبب في انعدام الثقة بين المريض وطبيبه ،وإحباطا لدى الطبيب الذي يبذل كل ما في وسعه، ويستعين بكل خبراته الأكاديمية والمهنية، لتشخيص حالة مرضية، لتحول تلك المادة الدوائية المغشوشة كل خبرته ومهارته إلى مجرد تخمينات وافتراضات، يصبح المريض أمامها مرغما على البحث عن العلاج في الخارج ،وهناك لا يزيد بعض المرضى المرفوعين-عادة- على اخذ أدوية أصلية عالية الجودة- هي نفسها التي كانوا يستعملون نسخا مزورة منها- تحرص قوانين الدول الأخرى، ومساطرها المهنية والرقابية الصارمة على إبقائها بعيدا عن كل أشكال المضاربة والسمسرة الربحية، خدمة للمصالح العليا لمواطنيها، واحتراما لكرامة الإنسان، و للرسالة النبيلة للطب والصيدلة. والفوضى التي نتحدث عنها هنا بمقدوركم جميعا ملاحظتها بالعين المجردة، وعن طريق التجارب الشخصية اليومية، فكم استعملتم من المسكنات والمضادات الحيوية دون أن تلاحظوا أن لها مفعولا يترك أثرا ايجابيا على وضعيتكم الصحية، فمعظم المواد الدوائية عندنا- مع الأسف- هي عبارة عن خليط من القمح والدقيق، ومستحضرات عشبية، تعدها مخابر دولية وهمية في الظلام تدفع مالا حراما لممثلين محليين جشعين يعميهم حب المال عن التمييز بين السم والترياق، لتستوردها شركات يقال إنها وطنية - عبر البر والبحر والجو، حيث لا رقابة على المنافذ ولا تحقق من شرعية وجودة المدخلات بكل  أنواعها ،ولا عين ساهرة للحرص على سلامة أرواح الناس والتأكد من المواد التي تغرق بها السوق المحلية على مدار الساعة من طرف أباطرة التجارة الربحية الانتهازية معتمدة محليا لتوزيع الدواء، وهي شركات أصبحت- في طرفة عين- بحجم المدارس الحرة عددا وفسادا، لتكون مثالا حيا على بشاعة الفوضى في قطاع الصيدلة كله ، ودعونا من الحديث عن كذبة كبيرة اسمها "المخبر الوطني لمراقبة الجودة" فلا هو مخبر، ولا هو وطني، ولا هو قادر على مراقبة أي شيء!! لا أريد - عبر هذا المقال- إرضاء أحد أو إغاظة أحد، وأدرك حجم الإحراج الذي سيسببه لي هذا المقال أمام العشرات من معارفي، وأصدقائي، وزملائي في قطاع الصيدلة وحتى فى الإدارة المعنية والوزارة الوصية، الذين يعلم الله أنني لا أريد إلحاق الأذى بهم أو التشهير بهم، معاذ الله، غير أن واجبي- بصفتي ممرضا وصحفيا- يتطلب منى تبيان الحقائق لوجه الله والوطن، والوقوف إلى جانب عامة الناس والدفاع عن مصالحهم، مهما كان الثمن الذي سأدفعه، لقناعتي بأن قمة السمو هي أن نقول الحق ولوعلي أنفسنا، و ايمانى المطلق بأن الساكت عن الحق شيطان أخرس.

5. ديسمبر 2010 - 10:10

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا