عشر سنوات من الصعود / محمد عبد الله ولد لحبيب

altعندما تجمع ذلك الجمع من طلبة جامعة نواكشوط، ذات مساء صيف العام 2000 كان القليلون جدا من المجتمعين واعون بالخطوة التي يقدمون عليها، وقليل من أولئك القلة كانوا ينتظرون أملا أن تبلغ القافلة تلك الربوة، قليلون جدا توقعوا مواصلة الصعود إلى القمة.

وأقل منهم من توقعوا أن تكون القمة هكذا وهنا في الأعلى. لا أحد من خارج المجموعة أيضا توقع شيئا كهذا.. الكل بمن فيهم المجتمعون ومراقبو المجتمعين، أنصار المجتمعين، وهو كثر، وخصوم المجتمعين، وهم أكثر، الكل توقع أن يمضي مع الزمن هذا المولود الذي حمل، اعتباطا ربما، قالوا، اسم الاتحاد الوطني لطلبة موريتانيا، كما مضى أسلافه. المفردات ذاتها تكررت على الأسماع وفي الأوراق أكثر من مرة وبأكثر من صيغة "الطلبة" "موريتانيا" "الاتحاد" في الوطن وخارجه عادت ذات الصيغ والعبارات بذات الألوان وذات الشعارات وربما أحيانا بذات الشخوص..ما الذي يجعل الأمر مختلفا هذه المرة؟

الكل أجابوا عن هذا السؤال بعبارة: لا شيء. وكان المجتمعون يقبلون نقاش كل فكرة إلا فكرة واحدة، وحدها من بين تلك الأفكار حكم عليها بالرفض، الرفض حتى من دون مناقشة! قالوا جميعهم برفضها. لم يجمعوا على فكرة واحدة من كل تلك الأفكار التي طرحت إلا هي وحدها، بل لم يجمعوا على رفض فكرة من الأساس إلا هي، إنهم رفضوها بالأقوال والأفعال، رفضوها بالسهر في الليالي الطوال، رفضوها والقيظ يلفح وجوههم النضيرة. كانت الفكرة الوحيدة التي تستحق فعلا أن ترفض. التاريخ يعلمنا ذلك. الواقع الآن وبعد عشر سنوات كاملات يقوله بملء فيه! كانوا على صواب في رفضها كانوا محقين كلُّهم في إجماعهم على رفضها من المبدأ.  بتنا الآن نقول لأنفسنا كانوا على حق، كانوا على صواب! عندما رفضوا جميعهم فكرة الوقوف في منتصف الطريق، أو حتى التفكير في التوقف، مجرد التوقف وليس الوقوف. هكذا الأفكار التي صنعت التاريخ جميعها رفض أصحابها التوقف بها عند نقطة قبل النهاية، رفضوا إلا مواصلة السير حتى قمة الربوة لن يكفي أن يوضع القمر في يمين عظيم والشمس في يساره للتخلي عن فكرته.. وهي في منتصف الطريق.. وهكذا كان صيف العام 2000 عندما نتذكره الآن. لم يكن بإمكان التاريخ أن يتوقف لم يكن ممكنا أن يتوقف دوران الأرض، ليس بالإمكان أن يَحبِس المُناصبون الشمس لأنها مأمورة، هذه المرة كانت مأمورة أن لا تتوقف. أن تسمح للأرض بالدوران إلى ما نهاية، أو إلى نهاية اسمها قمة الربوة، هذا ما كان ممكنا وهو ما تحقق فعلا، هو ما نعيشه اليوم.  شهورا بعد ذلك التحقتُ ضمن مجموعة أخرى بالمجتمعين، سنحمل لاحقا اسم رواد. بالنسبة لمن يأتي بعدنا كانت الريادة أن نشارك في أول انتخابات، ولاحقا ستكون الريادة هي أن تجتمع بالمؤسسين الأول أن تراهم أن تجلس إليهم. تنافسهم على مقاعد هم شادوا كراسيها ومدوا أيديهم إليك لتعبر. لم يمدوا أيديا بل نصبوا جسورا عبر عليها الجميع من بعد وعبَرَتْ عليها، وهو الأهم، أفكار التأسيس الأول. وكان المستلم شيئا لم يتأسس بعد. رأينا ملامحه بالكاد نتبينها من شدة الجراح، لكن أبطال المعركة الأولى لا يريدون تسليم جثة لا يريدون تسليم جريح مثخن، كانوا على استعداد لمواصلة القتال، حتى لا تعود راحاتنا ترجف بمقابض السيوف. إنها سيوف حقيقية لا أستعمل مجازا. حتى تتعود سواعدنا حمل الجرحى من غير أذية، لم يكن يراد لها أن تصير نعوشا، أو أَسِرَّةً لحمل الميؤوس منهم، كانت المهمة أشبه بمهمة الشباك يحمي الزرع من العوادي ولا يحجب أشعة الشمس.. وترعرع النبت أينع يَغيظ الكفار [سامحوني لم تكن يومها قد تسمَّمَتْ وكان ثمة من يكفرون بالاتحاد. لم أجد أحسن منها] زرعه، تكلؤه السواعد متوضأة، وبدمائها أحيانا. ولم نُرهقْ عسرا لأن الغِراس كان بيدي صادق، لم يكن ماهرا أحيانا بما يكفي لكن المصة يرتضعها المزارع الصغير من ثدي أمه الحنون، تستحيل فطرة تعلمه حب الأرض، تريه أمر الغرس وهو بعد طري العظم. وكانت الفطرة والمصة تهدي الغارس الطري. وطفق النبت يكبر والغلام يستوي أستاذا يلقن الجميع الدروس.. وجثا الكبار على الركب في انتظار كلمة يفوه بها الأستاذ الجديد.. وأخذ يلقي كلماته واثقا يرى مواقعها من صدور المخالفين والمُناصبين، وأخذت الدروس تأخذ مكانها فكان أول درس أعطيه الجاثون على الكراسي والكراريس أن الاتحاد على كلمة سواء جد ممكن، ممكن لأنه واجب ولأنه مطلوب، ولأنه طريق الواجب والمطلوب. وبدا الجميع مصدومين من الدرس الأول لا يملكون إنكاره. قالها الواقع مرة أخرى هؤلاء اتحدوا وهم ملتصقون بالوطن متشبثون بالوطن مؤمنون بالوطن،، ونحن افترقنا لتشبثنا بالكراسي لإيماننا بها..وبدا أن الدرس غير ممكن الاستيعاب على هذا النحو، وبما أنه درس من الواقع فهو غير ممكن الاستمرار. هذا الواقع الذي يلقي هذا الدرس يجب أن يتغير. وتبين أن الواقع بدأ يستوعب الدرس بدأ يمترئ استفادة الدروس على هذا النحو المزعج.. لن يتغير الدرس، بمعنى لن يتغير الواقع، فلنغير الأستاذ .. الأستاذ هو الآخر، ياللهول، غير قابل للتغير .. فلنخلق أستاذا آخر.. لم لا؟ أساتذة آخرين. وجاء الأستاذ الأول، وزلزلت الصدمة: الأستاذ الجديد غير مؤهل لإلقاء الدروس، الأستاذ عيي. الأستاذ أبلد مما توقع صانعوه. إنه يحمل نفس الجينات، توقعوا أن تكون مناقضة للمصداقية للواقع للطموح للتغيير.. لكنهم ظنوا الجينات مغنية في إلقاء الدروس. حتما سيلتبس هذا بـ"الوطني" (التسمية رغما عنهم) زعموا!.  إلقاء الدروس مسألة سهلة، تبين أن الأمر مجرد تخمين. ولم يكن ممكنا التراجع عن خط صناعة المعلمين (على اعتبار أنهم الأنزل رتبة في السُّلَّم الإداري). فقامت النظرية على ركن واحد هو الإكثار من المعلمين لموازنة التفوق الكيفي للأستاذ!. وتضاعفت الخيبة. كثرة المعلمين رغم الزوبعة الكبيرة وكثرة الهرج لم تشوش على الصوت الشجي، كل النفخ لم يَحُدَّ من ضوء الشمس لم يطفئ وهج غُرَّةِ الأستاذ. وقف التاريخ مرة أخرى ليقول كلمته، ونهض الواقع ليدلي بشهادته: إنه الأستاذ الوطني والغير طلبة، مهرجون، مواظبون، مهملون، مجتهدون .. لا فرق. الكل طلبة والأستاذ واحد. وأخذ الأستاذ زمام المبادرة وألقى الدرس الثاني. الدرس الثاني كان أشد وقعا، لم يكن في المقدور تصوره، كان من فرض عليهم الزمن الجثو على الركب لتلقي المعرفة أصغر عقولا من أن يستوعبوا الدرس الثاني وكانت المواقف والمواقع تفرض سلوكا معاديا للمعرفة معاديا للعلم، مناقضا لفضيلة التعلم. الدرس الثاني كان قاسيا. الجميع صُدم، انصدم، كان مفاد الدرس الثاني باختصارِ التواضع: أن المواقع لم تخلق لمن جاؤوها أول مرة، ولو بشرعية الانتخاب العلني، الدرس الثاني يقول حقيقة واحدة. واحدة نعم، لكنها كبيرة جدا إنها تحوي كل الحقائق. من أكمل خدمته، مأموريته عليه أن ينصرف. هذا الكرسي ملك للجمهور يعيره من يشاء، والعارية مستدرة. تلك الحكمة الآدمية الخالدة، تترجم عنها الحقائق الكبرى في الكون والحياة. العارية مستردة ولو بعد حين. والحين هنا محدود بالقانون، قانون التداول.  جاء الدرس هذا صادما لمنافاته لمعطيات، وتصورات الواقع، على المستوى الداخلي في الجامعة وعلى المستوى الوطني، ومار الجاثون على ركبهم مجددا، ثم تقرر لعن الأستاذ، لا أكثر.  والدروس تترى على نحو مخيف لا تصطحب معها الضجيج الكافي لإسماع الطرشان مكتفية بخطف أبصار النافخين لإطفاء وهج الشمس. والأستاذ متربع على عرشه في قمة التلة يرمق اهتمامات الصغار، لعب الصغار، أحلام الصغار، تستبد بالتلامذة الذين يغيبون عن الدرس الألف. التلة التي استوى عليها بعد عشر حجج من الصعود. هناك في الأفق حيث الشمس تحجب نورها من دون أصحاب الاهتمامات الصغيرة لمع الأستاذ بارقة أنبأته أن الربوة، قمة الربوة، أعلى الربوة، العرش فوق الربوة، ليست نهاية الصعود، هي محطة فقط من عشرات المحطات، تلة من مآت التلال، هضبة بعيدة من السفح، بعيدة أيضا من السماء، عشر من عشرات السنين، يوم من آلاف الأيام، كلما صعدنا التفتنا فرأينا نقْصَ ما كُنا فيه فاستغفرنا.. 

16. مايو 2010 - 11:33

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا