هوامش على"كرنفال" النيل من الإسلاميين / أحمدو ولد الوديعة

altبعد غياب عن الساحة لفترة طويلة من الزمن، عرفت الكثير من الأحداث الجسام وطنيا وإقليميا ودوليا، عادت فجأة عشرات الأقلام القومية المعروفة والمنكرة والقديمة والمحدثة، لتكرر نفس الكلام الذي كان أسلافها يرددونه منذ عشرات السنين عن عمالة الإسلاميين وخيانتهم وارتباطهم بالأجنبي.

ودخلت هذه الأقلام في سباق "ماراتوني" يبدو أن جائزة ما تنتظر في نهايته من يثبت أنه الأقدر على إلصاق أكبر عدد من النعوت السيئة بالتيار الإسلامي في موريتانيا وفى العالم، وليس من المهم من أين جاءت تلك النعوت؟ وهل هي حقيقية أم متخيلة، فمذهب القوم أنه يجوز التحديث عن "الإسلامويين" ولا حرج فالكذب جائز والتدليس مستحب والقذف سنة مؤكدة. تابعت هذه الحملة على مدى الأسابيع الماضية، وكنت محجما عن الرد على ما يطرح فيها من أفكار، لقناعة تحصلت عندي منذ فترة؛ مؤداها أنه في عالم الأفكار ينبغي أن تكون الأولوية لطرح الفكرة وتركها تتفاعل، واستخدام الوقت في تعلم فكرة أخرى، أو الدفاع عن قضية أخرى، أو عن ذات القضية ولكن من زاوية جديدة دون إضاعة الوقت في الرد على من يمارسون حقهم في الاختلاف أو في المشاغبة حتى، لكن بما أن بعض هذه الردود تعمد تقديم خلطة من الوقائع المزيفة لتاريخ قريب أنا أحد شهوده رأيت من المسؤولية المشاركة في النقاش تأدية للشهادة ورفعا للبس عن بعض القضايا التي يتعمد بعض إخواننا قراءتها على الطريقة "النواسية". 1 مع أن المقال الأخير للقيادي البعثي محمد الكوري ولد العربي – كشف مشكورا عن كون المشكل مع التيار الإسلامي في موريتانيا وفى العالم مشكل قديم ومركب، تم استغلال موضوع اللغة العربية فقط للتعبير عنه والتنفيس عن مكنوناته، والاستفادة من المكانة السامقة للغة القرءان للنيل من "عدو استراتيجي"، مع ذلك فلابد من التوقف ابتداء مع "السبب المباشر" للنقاش، وهو الموقف من اللغة العربية للوقوف على حقيقة الجرم الذي اقترفه "التواصليون"، واستحقوا على أساسه كل هذا السب والتجريح الذي وصل حد اتهام محمد الكوري لهم بأنهم جزء من أجندات "التغريبيين"، وتطوع أحد تلامذته النجباء بتطوير الموقف قائلا إن "التواصليين أخطر على العربية من "الفرنكفونيين". إن موقف التيار الإسلامي الموريتاني من اللغة العربية أصيل وأصلي، وضارب في عمق الرؤية الإسلامية التي نذروا أنفسهم للدفاع عنها ودفعوا مقابل ذلك سنوات طويلة من السجون والتشريد والمنافي، وهو موقف واضح وضوح الشمس. ولا يصح في الأذهان شيء *** إذا احتاج النهار إلى دليل يرى الإسلاميون العربية لغة القرءان، لغة التواصل الأخير والنهائي والأبدي بين السماء والأرض، ومؤسساتهم العاملة في الميادين الثقافية والتعليمية والاجتماعية تقدم يوميا عشرات الإنجازات "الميدانية" لصالح اللغة العربية، في وقت يكتفي فيه بعض إخواننا القوميين بنفث بعض الدخان الذي يحول - في الغالب– بين العربية وبين حضنها ووعائها ومصدر شرعيتها الوحيد والأوحد أعني القرءان والإيمان والإحسان. موقف الإسلاميين من العربية موقف واضح لا " لكنة فيه" يا ولد العربي عبرت عن ذلك نصوص حزبهم التأسيسية، وعبرت عنه فعاليات حملة "هو سماكم المسلمين" التي أغاظت قيادة العبثيين، وعبرت عنه قبل ذلك بعشر سنوات وثيقة منشورة عشية صدور "إصلاح 1999" حين كان أغلب المنتفضين للعربية اليوم راتعين في حياض نظام ولد الطايع منشغلين عن العربية والروسية والبابلية حتى. هنا لا بد أن يطرح السؤال ما المشكل إذا، ما دام أن التيار الإسلامي هو الحامي الأول للغة العربية في موريتانيا، والمهتم الأول بها والناشر الأول لها – ولدي المعطيات والاستعداد للتراجع عن هذا الزعم إن قدم لي واحد من " التعريبيين" ما يساوي واحدا على الألف من الخدمات التي قدمها التيار الإسلامي للغة العربية في هذه البلاد، وفى البلدان القريبة والبعيدة، ...نعم إنه سؤال مطروح بإلحاح وهو ما المشكل ما الجرم الذي اقترفناه حتى تقام لنا "محاكم الثورة"، وتصدر علينا أحكام التخوين والتجريم والتقبيح؟. أعتقد – والله تعالى أعلم – أن الجرم الجوهري الذي اقترفناه هو أننا "خرجنا على المقولات المقدسة لسدنة الفكر القومي في موريتانيا، وقدمنا بكل وضوح رؤية مختلفة لموضوع اللغة العربية مؤسسة على منطلقاتنا الإسلامية وليست على منطلقات عفلق والحصري؛ رؤية تقدم اللغة العربية للموريتانيين جميعا؛ باعتبارها لغة قرءان ودين وأمة، وليس لغة قوم وعرق وأغلبية، رؤية ترفض أن تكره الناس على العربية كما أمر الله ألا نكرههم على أصل الدين، رؤية تؤمن – إيمانا أصليا وليس إيمانا محدثا تدفع له المناكفات– بأن لغاتنا الوطنية "البولارية والسوننكية والولفية" لغات إسلامية أسلمت حين أسلم أهلها، وآمنت يوم آمن أهلها وجاهدت يوم جاهد أهلها في جيوش المرابطين ليؤخروا سقوط الأندلس أربعة قرون، ومن الواجب تطويرها وترسيمها وتمكين الناطقين بها من كامل حقوقهم؛ رؤية تؤمن بأن رسالة الإسلام هي رسالة للناس كافة عربهم وفرسهم ورومهم وزنجهم وبربرهم وصينهم وفرنسييهم وإنجليزهم، وكل العالمين، وهي لذلك مهتمة بتعلم جميع اللغات، والتواصل مع جميع الأمم والانفتاح عليها، وهي تدرك أن رسالة الإسلام اليوم تقدم للناس بالكثير من اللغات، ومنها الفرنسية التي أصبحت لغة عشرات الملايين من المسلمين، قد لا يكونون شيئا مذكورا عند بعض إخواننا القوميين لكنهم بالنسبة لنا جزء من أمة إذا اشتكي منها عضو تداعينا له بالحمي والسهر. 2

استغرب الفقيه "القومي الإسلامي" الشيخ عثمان ولد أبو المعالي أن يرفض الإسلاميون التطبيع، ولا يعتنقون مذهب عفلق والحصري في موضوع اللغة العربية، وللشيخ القومي الحق في ذلك الاستغراب، لكن أرجو أن يتسع صدره لتوسيع دائرة الاستغراب قليلا، فالتطبيع هذا الذي يكثرون الحديث عنه اليوم بعد أن أصبح إنجازا متقاسما بين ولد عبد العزيز والقذافي - حسب آخر كلمة لرئيس المنسقية-، ليس وليد الأمس، بل هو جرم اقترفه نظام موريتانيا الأسبق في نهاية ثمانينات القرن الماضي، وأصر عليه وظل يتمادى فيه كلما تمادي الصهاينة في بطشهم بأهلنا في فلسطين، فأين كان السيد الفقيه؟ وأين كانت نقوله الفقهية التي يقدمها لنا اليوم بعد أن ذهب الصهاينة وذهب النظام الذي جاء بهم؟، أم أنه يجوز في مذهب القوميين الإسلاميين تأخير البيان عن وقت الحاجة؟. إن محاولة التشويش على نضالات الإسلاميين من أجل وقف التطبيع، وهم الذين قدموا عشرات الجرحى ومئات المعتقلين وعشرات المؤسسات بسبب مواقفهم المعارضة لنظام ولد الطايع التي كان التطبيع واحدا من أسبابها الرئيسية، إن من يحاول ذلك عليه أن يجرب أولا أن يحجب الشمس بغربال، فإذا نجحت تجربته فنحن جاهزون لنراقب محاولاته الرامية إلى وصم التيار الإسلامي بالتقصير في موضوع مقاومة التطبيع. إذا عير الطائي بالبخل مادر *** وعير قسا بالفهاهة باقل وقال السهى للشمس أنت كسيفة *** وقال الدجى للشمس لونك حائل فيا موت زر إن الحياة ذميمة *** ويا نفس جدي إن دهرك هازل. 3 يجد بعض إخواننا القوميين صعوبة بالغة في فهم مسألة هي من البدهيات لدي الإسلاميين – ولدى كثيرين غيرهم – وهي أن الاشتراك مع نظام أو جهة ما في بعض المشتركات الفكرية لا يعني بالضرورة أن نرفعه إلى مستوى العصمة، وأن نبحث لكل تصرفاته عن تسويغ ونعتبر كل معارض له خائنا أو طابورا خامسا، وعلى هذه النقطة بالذات تأسس الجزء الكبير من "الإرث الإنساني" الذي جرد ولد العربي في مقاله الأخير فمن أصل اثني عشر "مأخذا" على التيار الإسلامي كانت ثمانية مآخذ تدور حول الموقف من النظام العراقي السابق، ومن رئيسه صدام حسين، مرة لأن إعلام الإسلاميين لا يمجده، ومرة لأن بعض شباب الإسلاميين يتحدث عنه بالسوء في المساجد، ومرة لأن أحد القادة همس في أذن أحدهم يوما ما أن هذا النظام هزم أمام الغزو الأمريكي،ومرة لأن الغنوشي قال إن النظام العراقي يتحمل مسؤولية الغزو، وفق ما نقل ولد العربي عن مصدر مجهول أو مؤجل البيان. وتأسيسا على نفس المنطلق يستفيض ولد العربي في ذكر مساوئ النظام السوداني، انتقاما من الإسلاميين الموريتانيين الذين سولت لهم أنفسهم نقد النظام العراقي المعصوم، لكنه مع الأسف أخطا العنوان. نحن يا ولد العربي في التيار الإسلامي الموريتاني لا نعتبر أن أي تجربة من تجارب الحكم الإسلامي الحديثة تمثلنا، لا تجربة السودان، ولا تجربة إيران، ولا حتى التجربة التركية، نحن تيار إسلامي موريتاني، نتواصل مباشرة مع نصوص الوحي، ونجتهد لإيجاد مشروع إسلامي أولويته موريتانيا، ونعطي لأنفسنا حق الاستفادة من مختلف تجارب الحكم إسلامية كانت أم غير إسلامية، ونمارس حقنا في نقد أي تجربة، لأن ارتباطنا هو بالفكرة وليس بالتطبيق، بالمبدأ وليس بالشخص، لذلك فنحن لا نعتبر التجربة السودانية مرجعية، ولا تتم مسائلتنا عنها، ولسنا مسؤولين عن تأويل مواقفها، بل دعني أقول بشكل أكثر صراحة، إن وجهات النظر داخل التيار متعددة حول عدد من القضايا، منها تقويم التجربة السودانية، ففينا من يعتبر أن جانب الإيجابيات فيها غالب، وفينا من يرى أنها تجربة حكم عربي أحادي لا تختلف في الكثير عن مثيلاتها العربيات. إن مشكل تقديس بعض إخواننا القوميين لأنظمتهم وقياداتهم هو مشكل جوهري، وقد ذكرني حديث ولد العربي عن مأساة سقوط بغداد بحادثتين معبرتين في هذا السياق. - الحادثة الأولى كانت في أيام العدوان الأمريكي الأول، وقد كنت حينها في قيادة مسيرة شعبية متضامنة مع العراق، وكنت مع شباب آخرين في سيارة تقود المسيرة وتردد بعض الشعارات، وفجأة هجمت علينا سيدة بعثية متحمسة، قائلة أنتم عملاء، أنتم طابور خامس، أنتم أنتم، ... لما ذا تقولون "بالروح بالدم نفديك يا عراق، ولا تقولون بالروح بالدم نفديك يا صدام"، قلت للسيدة التي كانت تنشط حينها في حزب النهوض، أو ليس صدام من العراق، فردت بسيل من الشتائم، والاتهامات، وتركتنا لحال سبيلنا بعد أن ضربت السيارات ضربات نفست من خلالها بعض ما كان يعتمل داخلها من غضب على هؤلاء العملاء الذين يقدمون العراق على صدام حسين. - أما الحادث الثاني فقد كان في الأيام التالية لسقوط بغداد، حين نظم الرباط الوطني تظاهرة في دار الشباب القديمة، حضرتها نخبة سياسية منوعة، وألقى فيها الأستاذ محمد غلام ولد الحاج الشيخ مداخلة، قال فيها إن منهج القرءان يعلمنا أنه ينبغي أن نفتش في أنفسنا عن أسباب الهزيمة، مستغربا أن يحدثنا القرءان عن أخطاء أرتكبها أصحاب الرسول صلى الله عليه وتمنعنا الثوريات العربية أن نتحدث عن سبب إخفاقاتها، حينها ثارت ثائرة عدد من قيادات التيار البعثي، محولين الندوة إلى صراخ في وجه من يريد مجرد التفكير في أسباب النكسات والنكبات التي وقعت فيها الأمة خلال العقود الماضية، تحت حكم أنظمة أحادية، تتستر وراء عناوين قومية أو يسارية أو إسلامية، أو ليبرالية. 4 كرس الزميل محمد الكوري ولد العربي جزء كبيرا من مقاله الأخير على الهجوم على ما سماه "الإعلام الإسلاموي" المتورط في حملات تشويه وتعتيم تخص النظام العراقي المقدس، ومع الاعتراف أن للإعلام الإسلامي أخطاء عديدة، ودون الدخول في الكثير من التفاصيل، اعتقد أنه يمكنني القول مطمئنا أن المؤسسات الإعلامية المقربة من التيار الإسلامي من أكثر المؤسسات الإعلامية الوطنية إيمانا بالتعددية، وانفتاحا على مختلف الآراء والتوجهات، وهي ميزة سببت وتسبب لهذه المؤسسات الكثير من المشاكل مع الأصدقاء قبل المنافسين، لأننا – مع الأسف – في مجتمع لم يتعود أغلبه بعد على حرية الرأي، ولا على تعدد وجهات النظر. أتذكر أنه حين قررنا إصدار يومية السراج في العام 2005، أعددنا قائمة بمجموعة من الكتاب من مختلف التوجهات الفكرية، من بينهم زميلنا محمد الكوري، وطلبنا منهم كتابة مقالات رأي في الصفحة الأخيرة من الجريدة، وقد وافق عدد منهم من بينهم زميلنا محمد الكوري الذي استمر مشكورا في كتابة مقال أسبوعي متميز، قبل أن يتوقف عن الكتابة، وقد مكثنا وقتا طويلا نلح عليه في الاستمرار، لكن الظاهر أن أسبابا قاهرة منعته من ذلك، ربما يكون من بينها حسبما فهمت من المقال الأخير مخاوف من ثبوت تهمة التقرب من "الإخوان". 5 أخيرا لدى رجاءان من إخواننا القوميين: أولهما: أن يمتلكوا الشجاعة لتقديم مشروعهم القومي على حقيقته العلمانية واللادينية، التي ترى أن الإسلام مجرد تعبير عن الهوية العربية، تماما كما هو الحال مع شريعة حمورابي، وشعر الجاهلية ودين محمد وثقافة عصر المأمون وفق تعبير ميشل عفلق فى كتابه المؤسس "في سبيل البعث"، أو أن يأخذوا مسافة من مفكري التيار القومي العلماني الذين تنضح كتاباتهم بالتأكيد على علمانية الفكر القومي، أما أن يجمع هؤلاء بين تقديس منظري الفكر القومي، والظهور هنا في موريتانيا بمظهر إسلامي، فتلك ازدواجية غير مناسبة، وليس ثمة ما يدعو لها في الواقع، فالتعددية الفكرية والإيديولوجية مشروعة، بل وضرورية ربما. أما الرجاء الثاني: فهو أن لا تدفعهم الرغبة في "الثأر" من العدو الإسلامي "إلى مجانبة الصواب" وتزوير وقائع قريبة، من قبيل القول إن رئيس حزب تواصل السيد محمد جميل ولد منصور طالب بحظر الأحزاب المدافعة عن اللغة العربية، أو أنه قال في الجزيرة ما يناقض ما كتب في السراج، فالذي يعرف التيار الإسلامي الموريتاني عموما، والرئيس محمد جميل خصوصا، يعرف أنه من المستحيل أن يطالب بحل الأحزاب، وبالمناسبة الكلام الذي قاله جميل موثق بالصوت والصورة، وليس فيه شيء مما نسب إليه زميلنا المحترم. أظن أن الوقت قد حان لنعرف أننا مختلفون، وأن نجد الطريقة المناسبة لإدارة خلافاتنا بطريقة حضارية لائقة، لا تزوير فيها ولا تخوين، فنحن جميعا نتحرك في دائرة الاجتهاد البشري، ولدى كل منا جزء – يكبر أو يصغر – من الحقيقة، فالأسلم أن نكف عن منطق الإقصاء والإكراه واحتكار الحقيقة والصواب.

18. مايو 2010 - 13:33

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا