دعوها تنضج على نار هادئة ! / د.محمد محمود سيدينا

عندما يريدون الإشارة إلى اكتمال و حسن نموّ  الأمر مع اكتمال ظروف و شروط نضجه يقولون بأنه أنضج على نار هادئة... أما عندما تنضج الأمور على نار غير هادئة فتلك هي الوجبات السريعة...
في مدن و حتى في قرى عالم اليوم تنتشر محلات الوجبات السريعة و لعل وجه السرعة فيها راجع إلى أنها لم تنضج على نار هادئة ...  على إثر هذه الوجبات السريعة تنتشر

 المصحات و العلاجات المتعلقة بزيادة الوزن بشكل غير طبيعي مضر بصحة الإنسان لأن أجهزته لم تعد تتحمل الوزن الزائد الذي تسببت فيه تلك الوجبات السريعة... إنه شيء يشبه الجنون حقا ... أن يشتري الإنسان داءه و دواء دائه من على نفس الشارع تقريبا... يدفع الثمن مرتين مع أنه غير متأكد من حصول الفائدة و لا - حتى- السلامة!...
المزارع الآن تتسابق إلى إغراق الأسواق بمنتجاتها ... في سبيل ذلك تستعمل أساليب تسريع  و تحسين النمو من خلال تلاعب الإنسان بالمادة الوراثية  عبر ما بات يعرف بالهندسة الوراثية (Genetic Engineering) و من خلال استعمال الأسمدة المصنعة المنشطة في النباتات و من خلال عقاقير تسريع  النمو  للحيوانات و بعد ذلك أصباغ الحفظ في المعلبات... و النتيجة أن أمراضا مزمنة و مستعصية لم يعرفها الناس في أسلافهم قد انتشرت بين العالمين...
هل سبق أن رأيتم حبة طماطم تزن كيلو غراما و هي  تنضج بين عشية و ضحاها؟... و هل رأيتم ديكا روميا وزنه أكثر من ثلاث كلوغرامات و قد خرج قبل لحظات من بيضته!...  إنه فعل منشطات و أسمدة و عقاقير "الوجبات السريعة"...
في عالم التطور و النمو و الترقي الإنساني أيضا توجد وجبات سريعة بهندستها و مهندسيها و بأسمدتها و عقاقيرها و منشطاتها التي لا تقل ضررا و لا فتكا بحياة البشرية!... هل رأيتم  وزيرا أو مديرا أو موظفا قد ملأ  الدنيا و شغل الناس يظهر للناس بين عشية و ضحاها دون أن يكون له سجل مهني يخبرنا عن سيرته و سريرته؟... هل رأيتم تاجرا أو رجل أعمال قادم لتوه من طبقة الحفاة العراة العالة رعاء الشاء قد جمع بحوزته بين عشية و ضحاها ما " ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة" من خزائن و كنوز!...إنه النمو غير الطبيعي بفعل "الوجبات السريعة" أيضا.
مرة حدثني أحد الزملاء عن ترقية متسارعة لزميل لنا... فكر صديقي مليا ثم قال لي-تقريبا و بشيء من التصرف- : هذا شيء طبيعي في هذا البلد!... ألا تعلم أن "زوج عمة خالة ابنة عمة زوجته جنرالا!..." ...  متهاهة... أليس كذلك؟... لست أدري هل فهمتم شيئا ... حتى أنا مازلت تائها في هذه العلاقة الأسرية العنكبوتية المعقّدة...
ذلك وجه آخر من أوجه فعل و تفاعل الوجبات السريعة... خلاصة ما تؤدي إليه تلك الوجبات المخلة بقوانين النمو و الترقي الطبيعي للإنسان هو أنها تسند الأمر الى غير أهله في نهاية المطاف ... و عندما يسند الأمر إلى غير أهله فليس للبشرية إلا انتظار الساعة...
الأنبياء هم صفوة البشرية و خيارها في كل زمان... و قد اصطفاهم الله سبحانه على العالمين... لكنهم في طريقهم الى ذلك الاصطفاء مروا بكل محطات الاختبار و الابتلاء... و بعد أن عبروا تلك المحطات بصبر و جهد و جهاد كانوا هم المصطفين جدارة بعد توفيق الله و رعايته و عنايته سبحانه و تعالى.
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت :  كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه .. قالت عائشة: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟!... فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا" - مسلم.
و روى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فوجدته جالساً مع أصحابه يحدثهم وقد عصب بطنه بعصابة، قال أسامة: وأنا أشك على حجر... فقلت: لبعض أصحابه: لم عصب رسول الله صلى الله عليه وسلم بطنه؟ فقالوا: من الجوع... الى آخر الحديث....
يقول أحدهم : "لا يقاس النجاح بالموقع الذي يتبوأه المرء في حياته بقدر ما يقاس بالصعاب التي يتغلب عليها".... و يعرف المخترع الأمريكي توماس إدوسون النجاح بأنه 99% عمل و عرق و مثابرة و البقية (1%) للبقة... و أي نمو بشري يحصل خارج هذه القاعدة إنما يحصل  بفعل الوجبات السريعة!... ستلاحق صاحبه مضاعفات أعراضها الجانبية و ستلاحق المجتمع من بعده... كيف ذلك؟
الذي ينمو و يترقى في مشواره المهني على طريقة الوجبات السريعة لن يكون منتجا أبدا لأنه يعلم يقينا أن العمل الجاد المنتج لا يقدم ... هذا أولا...  و ثانيا سيظل يلاحقه شعور بالنقص لعلمه أنه  شخص في مكان غير مستحق ...أما ثالثا فإن المؤسسة التي يتقدم فيها العمال بشكل متسارع و غير مضبوط و لا منضبط ستأخذ طريقها –عاجلا أو آجلا- نحو التردي لأن  كل عمالها و موظفيها سيخلدون إلى الخمول و الكسل إما فقدا للأمل أو إتكالا على ما سميناه مفعول الوجبات السريعة تجوّزا... في مثل هذه المؤسسة ستختفي روح الإبداع و سيتلاشى حماس التنافس و التسابق... بدلا من ذلك سينصب اهتمام الناس على البحث عن أصحاب الأذرع الطويلة من جنرالات و وجهاء و رؤساء قبائل الشيء الذي يحدث-دون تعميم- الآن بكل أسف... و أخيرا ستترسخ –و هذا هو الأخطر- قناعة و ثقافة مفادها أنه لا يمكن لأحد مهما كان أن يتبوأ موقعا إلا عبر تلك الطرق "الوجبات السريعة" ... حتى لو أن السيد آينشتاين -على جلالة قدره و مقداره في مجاله- عينه مجلس الوزراء اليوم مديرا لمختير الفيزياء النووية فلن يصدق أحد أن ذلك كان ليحصل لولا أن  "زوج عمة خالة ابنة عمة زوجة" السيد آينشتاين كان جنرالا أو شيخ قبيلة أو شيخ مقاطعة نافذ أو ناشطا لا يشق له غبار في الحزب الحاكم.
حصل مرة أن جاءني أحدهم ممتنا لي شاكرا على نجاحه في مسابقة يعتقد جازما أنه لولا مساعدتي و تدخلي ما كان له أن ينجح... حاولت إقناعه بأنه نجح بفعل عمله و جده و مثابرته لكن بدون جدوى!... إنه لا يصدقني و لا يريد أن يصدقني ...  فلديه إيمان - كإيمان أبي بكر رضي الله عنه-  بأنه في هذا البلد لا ينجح أحد و لا يتقدم إن لم تكن خلفه رافعة اجتماعية أو قبلية أو سياسية.
أيها الرشداء...!
كل تطور أو نمو بشري لا يمر عبر العرق و العمل و المثابرة هو نمو مشوه غير طبعي و مضر بالحياة الخاصة و العامة و ستكون له مضاعفات خطيرة في الحاضر و المستقبل... هذا ما يجب أن تنتبه له الدولة و مؤسساتها من خلال وضع حد للوجبات السريعة المتمثلة في الوساطة و الرشوة و الابتزاز...
حفاظا على دولتكم و مؤسساتكم دعوا مواطنيكم ينمون و يتطورون و يترقون عبر السلالم و الطرق الطبيعية... توقفوا فورا عن دفعهم الى النمو عبر "الوجبات السريعة" المخلة و المضرة بهم و بكم و بالوطن... ضعوا لهم محددات علمية للنمو و التطور و الترقي  ثم اتركوهم يمرون عبرها بكل شفافية و عدل و حياد... و من لم يمر فليبقى في مكانه فذلك أفضل له و لكم و للوطن... و خير الكلام ما قلّ و دلّ.

4. يوليو 2017 - 23:55

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا