تعليق قانوني على كتاب القضاء للفاروق / بون سيدن

تمهيد :
عرف الفاروق عمر رضي الله في التاريخ الإسلامي بعدله وقوته في الحق فهو الذي لا يخاف في الله لومة لائم , وقد تميز بين الخلفاء الراشدين ـ رضي الله عنهم ـ بتقعيده لقواعد الإدارة والقضاء فكان يكتب بهذه القواعد لولاته وقضاته , وهو أول من وضع قانونا متكاملا لإجراءات التقاضي ضمنه كتابه المعروف بكتاب القضاء .
ورغم أن هذا الكتاب كان مختصرا في جمل يسيرة إلا أن المتمعن فيه يدرك أنه حوى مبادئ إجراءات التقاضي المدنية والجنائية على حد سواء , 

بل تضمن فوق ذلك قواعد العدل بشكل عام .
وفي هذه السطور القليلة سأحاول ـ بإيجاز غير مخل ـ بسط بعض ما تضمنه هذا الكتاب من قواعد بنت عليها القوانين الحديثة ما يعرف اليوم بالقواعد القانونية الشكلية أو القواعد الإجرائية بتعبير آخر , مبرزا تطبيقات هذا الكتاب في في القانون الموريتاني بشكل خاص وفي بعض القوانين الوضعية الأخرى أحيانا .
أولا: نص كتاب الفاروق:
من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أما بعد ..
فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة , فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له , آس بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك , البية على من ادعى واليمين على من أنكر , والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا , ومن ادعى حقا غائبا أو بينة فاضرب له أمدا ينتهي إليه ؛ فإن بيَنه أعطيته بحقه وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية فإن ذلك أبـلغ للعذر وأجلى للعماء , ولا يمنعنك قضـاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه نفسك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق ؛ فإن الحق قديم لا يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل , والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجربا عليه شهادة زور , أو مجلودا في حد , أو ظنينا في ولاء أو قرابة ؛ فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر وستر عليهم الحد إلا بالبينات والأيمان . ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة , ثم قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق , وإياك والغضب والقلق والضجر والـتأذي بالناس والتكبر عند الخصومة أو الخصوم ؛ فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذكر , فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس , ومن تزين مما ليس في نفسه شانه الله فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصا فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته  " . { ابن القيم / إعلام الموقعين ج 1 / ص 85 } 
ثانيا : أهم المبادئ القانونية التي تضمنها الكتاب
كما أسلفت فإن هذا الكتاب يعد مصدرا لقوانين الاجرءات المدنية والجنائية , فهو أول تشريع إجرائي عرفه المسلمون ـ بل ربما البشرية كلها ـ يقعد إجراءات التقاضي ابتداء بطرق تحريك الدعوى وانتهاء بطرق الطعن ونقض الأحكام .
ونخص فيما يلي أهم المبادئ التي وردت في هذا الكتاب  :
المبدأ الأول أهمية مرفق القضاء : من نافلة القول اليوم أن نتحدث عن أهمية مرفق القضاء والدور الذي تلعبه السلطة القضائية في الدولة الحديثة لأن ذلك أصبح متجاوزا ومفروغا منه , لما تقرره أغلب القوانين اليوم من مبدأ فصل السلطات واستقلال السلطة القضائية عن السلطة التشريعية والتنفيذية , لكن بالعودة إلى القرن الأول الهجري ـ أي تاريخ إصدار هذا الكتاب ـ نجد أن العالم حينئذ لم يكن يعرف في الدول القائمة آن ذاك إلا سلطة واحدة تجمع وظيفة التشريع والتنفيذ والقضاء , وقد حاول عمر ـ رضي الله عنه ـ في ذلك الوقت التنبيه على أهمية هذا المرفق الحيوي بقوله " إن القضاء فريضة محكمة .. " وبعد كتابة هذه الجملة بحوالي اثني عشر قرنا عرفا  العالم مبدأ فصل السلطات كنتيجة من نتائج الثورة الفرنسية 1789 وأخذت به معظم الدساتير المعاصرة ومنها الدستور الموريتاني الصادر بتاريخ 20 يوليو 1991 والمعدل بالقانون الدستوري رقم 14 /2006  والقانون الدستوري رقم 015/2012  فقد تناول هذا الدستور الأحكام المتعلقة بالسلطة التنفيذية في الباب الثاني , وتلك المتعلقة بالسلطة التشريعية في الباب الثالث , أما السلطة القضائية فتحدث عنها في الباب السابع الذي ركز فيه على استقلالها عن السلطتين التنفيذية والتشريعية ( المادة 89  جديدة ) , ونظرا  لما لهذا المرفق من أهمية بالغة في الحياة العملية , فإن أغلب القوانين الوضعية اليوم تحيطه بضمانات تمكنه من أداء وظيفته المسندة إليه على أكمل وجه ؛ من هذه الضمانات استقلال هذه السلطة إداريا وتنظيميا , وكذلك منح القضاة كامل السلطة في ما يدخل في صلاحياتهم حيث لا يخضع القاضي في إطار عمله إلا لسلطة القانون .
وإذا كان الدستور الموريتاني ينص في المادة 90  على أنه : " لا يخضع القاضي إلا للقانون وهو محمي في إطار مهمته من كل أشكال الضغط التي تمس نزاهة حكمه " , كما ينص القانون النظامي رقم 012/94 المتضمن النظام الأساسي للقضاء المعدل بالأمر القانوني رقم 016/2006 الصادر بتاريخ 12/07/2006  , في مادته السابعة على أنه : " لا يخضع قضاة الحكمة في ممارسة وظائفهم إلا لسلطة القانون " , وتنص المادة 8 من نفس القانون على أنه : " لا يجوز عزل قضاة الحكم ولا تحويلهم إلا بطلب منهم , أو بعقوبة تأديبية , أو لضرورة قاهرة للعمل وبعد رأي مطابق للمجلس الأعلى للقضاء "  , فهذه وإن كانت ضمانات مهمة لاستقلال السلطة القضائية وقيامها بمهامها , فإن السلطة القضائية في موريتانيا ما تزال ترزح تحت جملة من النصوص التي تكرس هيمنة السلطة التنفيذية وتحكمها في الجهاز القضائي ؛ من هذه النصوص ـ على سبيل المثال ـ المادة 14  من الأمر القانوني رقم 012/2007 الصادر بتاريخ 8 فبراير 2007 المتضمن قانون التنظيم القضائي , التي تنص على أن رئيس المحكمة العليا ( أي هرم السلطة القضائية ) يعين ويقال بمرسوم صادر عن رئيس الجمهورية ( أي هرم السلطة التنفيذية ) , كما جاء في المادة 26 من نفس القانون أن المدعي العام لدى المحكمة العليا ( أي هرم القضاء الواقف أو الادعاء العام ) يعين ويقال بمسوم صادر عن مجلس الوزراء وباقتراح من وزير العدل .
ولا يخفى أنه ما دامت السلطة التنفيذية تتحكم في القضاء وتسن القوانين التي تكرس ذلك , فلا يمكن التحدث عن استقلال القضاء ولا عن جود سلطة قضائية بالمعنى الكامل وإن وجدت على المستوى النظري ,  فاستقلال القضاء ـ حسب مبدأ فصل السلطات ـ يعني أن القضاة مستقلون في إدارتهم الذاتية , وهرم السلطة القضائية ينتخب أو يختار من بين القضاة الأعلى درجة في الهرم القضائي وهكذا الحال في جميع المناصب الأخرى .
المبدأ الثاني .. يتواصل بحول الله

18. أغسطس 2017 - 23:48

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا