الثورات العربية ليست نبتة في الهواء / سيدأعمر بن شيخنا

 

altينظر بعض المراقبين داخل المنطقة -وخارجها- إلى الثورات العربية الجارية وكأنها حدث استثنائي عابر في حياة شعوبنا، وكأن أمتنا كانت أمة ميتة؛ بعثت فجأة من مرقد كهفي عميق، بل ولم يتردد بعض هؤلاء في اعتبار الثورات الجارية مجرد تقليد لثورات الشعوب الأخرى.

وأنها مجرد ثمرة من ثمار تسريبات "ويكليكس" تخلقت على صفحات" الفيس بوك"..؛ وبالتالي هي سحب عابرة أمطرت صدفة في الأرض العربية اليباب!.

ورغم الاعتراف بتأخر لحظة الثورة العارمة -على النحو الحاصل الآن- أكثر من اللازم (في أمة أهدرت كرامتها وبددت طاقاتها مدة ليست باليسيرة من قبل أنظمة الفساد والاستبداد المرتهنة للأجنبي)، رغم ذلك فإن تجاهل تاريخ الملحمة النضالية العظيمة التي قادتها الأمة بتياراتها وكتابها ومفكريها طيلة القرن المنصرم على امتداد وطن العروبة وعالم الإسلام هو جريمة في حق الموضوعية والنزاهة العلمية، وتنكر لتاريخ مشرف من النضال، وإهانة لمواكب الشهداء والمعذبين في سبيل الحرية والكرامة من أبناء أمتنا.

إن نظرة موضوعية فاحصة للتاريخ المعاصر تدفعنا إلى القول -بثقة تامة- إنه لا توجد أمة من أمم الأرض واجهت من مؤامرات ومخططات التدمير، ومحاولات السحق والمحق مثل ما واجهت أمتنا، و لم تتصد أمة - في ملحمة مقاومة شاملة ومستمرة تتحدى الطغيان وترفض التبعية والاستلحاق- مثل ما تصدت هذه الأمة.

 

إرث نضالي عريق

إن الثورات العربية الجارية ليست إلا تطور طبيعي لمسار نضالي حافل بالعطاء زاخر بالمعاناة شهد لحظات تمدد وانتصار وعرف أيضا لحظات انكماش وانكسار، لكن حلم التغيير ظل ينمو مع تعاقب الأجيال وتنوع التضحيات واتساعها، ونظرة سريعة إلى تاريخ بعض الأقطار العربية التي وصلها قطار الثورة - حتى الآن- تعطي صورة واضحة عن هذه الحقيقة .

في مصر ليست الثورة في إحدى تجلياتها إلا بناءا تراكميا لإرث نضالي عريق جاء ثمرة للتجديد الفكري الذي قاده عبده والأفغاني وصاغه مصطفى كامل في برنامج حزب سياسي باعثا للروح الوطنية وجاعلا قوامه في الانتماء الحضاري الإسلامي، مرورا بثورة 1919م (التي اعتبرها المهاتما غاندي مصدر إلهام كبير بالنسبة له و"إنجازا يعز إنجازه في غير أمة مصر")، والإضافة التي مثلها ظهور جماعة الإخوان المسلمين وما جسدت من زخم تجديدي ونضالي في دنيا الحياة المصرية لازالت حلقاته تتوالى، من دون أن نغفل دور ثورة يوليو 1952م وأثرها في استثارة الشعور الوطني والقومي.

وفي تونس ليست الثورة في إحدى تجلياتها إلا تتويجا لتاريخ فكري ونضالي حافل؛ ظل دائما متعلقا بالحرية والاستقلال، ومرتكزا على الإصلاح والتجديد الحضاري ،بدءا من المشروع الإصلاحي الذي صاغه خير الدين التونسي وعبر عنه في كتابه " أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" ومرورا بالعلامة المجدد الطاهر بن عاشور الذي سمى تفسيره للقرآن الكريم في خطوة لافتة "التحرير والتنوير"، وهو الذي انتهى به اجتهاده -وهو أحد أبرز علماء المقاصد- إلى اعتبار الحرية مقصدا من مقاصد الشريعة ينضاف إلى المقاصد العامة المعروفة للشريعة، ومن تونس ولدت الحركة الوطنية بتياراتها وروافدها المتنوعة ذات السجل النضالي المشهود والتي كان لها شرف تفجير ثورة الاستقلال التي سرعان ما أطلقت شرارة الثورة في عموم الشمال الإفريقي.

وفي ليبيا تاريخ حافل بجهود الإصلاح والنهوض يعتبر تراث الحركة السنوسية الإصلاحي التزكوي محتلا موقع الصدارة فيه قبل أن تتوِّجه بجهاد أسطوري قاده الشيخ عمر المختار وإخوانه وهو الجهاد الذي ظل منارا لكل عشاق الحرية والكرامة.

وفي اليمن قامت ثورة الأحرار أو الثورة الدستورية فبراير 1948م التي كانت أول ثورة في الجزيرة العربية بل وفي العالم العربي تنبع من البيئة الحضارية للأمة وتشترك فيها قطاعات عديدة من العلماء والضباط والتجار والأعيان تجمعهم وثيقة فكرية وسياسية هي (الميثاق المقدس) حددت الأمراض والعلل المستوطنة في نظام الإمامة المهتريء وقدمت العلاج المناسب في أوضح منطق وفي معالجات محددة كانت سابقة لزمانها، ومع أن الثورة التي نجحت في الوصول إلى الحكم واجهت مؤامرة داخلية وخارجية وتم إجهاضها بعد شهر واحد من قيامها وأعدم أبرز قادتها وسجن البقية، إلا أن تراث الثورة كان قد تجذر في الوجدان اليمني تاركا بصمات لا تنمحي وأسس بالفعل لنهاية الحكم الإمامي المتخلف (الذي كان شاعر الثورة و فتاها الألمعي محمد محمود الزبيري قد عده إحدى مصائب اليمن:
ماذا دهى قحطان؟ في لحظاتهم * بؤس وفي كلماتهم آلام
ظلم وجهل فادح * ومخافة ومجاعة و"إمام"

 

معركة الاستقلال الثاني

وعندما انحرفت أنظمة دول ما بعد الاستقلال في الوطن العربي وتساقط ورق التوت تباعا عن سياساتها الخيانية وشعاراتها المزيفة، وبدا جليا أنها لا تختلف في الجوهر عن سياسات الاستعمار الغربي، بل هي امتداد طبيعي لها؛ حيث عملت هذه الأنظمة على إدامة واقع التجزئة وشلت قوى الأمة وبددت طاقاتها واستهدفت هويتها وبطشت بنخبها الحية وعبثت بمستقبلها، لقد أدركت الشعوب العربية ونخبها الفاعلة هذه الحقائق؛ فتصدت لهذا الواقع السياسي البائس، ودفعت أثمانا غالية في سبيل هذا الموقف، لقد دفعت أمتنا فاتورة كبيرة لم تدفعها أي أمة أخرى خلال خمسين سنة الأخيرة، لقد سجلت بلداننا أكبر المعدلات العالمية في أعداد السجناء والمعتقلين الذين اكتظت بهم سجون هذه الأوطان، بل بلغ الأمر في بعض البلدان وفي ظروف معينة إلى إقامة محتشدات لاستيعاب الأعداد المهولة من المعتقلين، وفي أوطاننا سجلت أكبر الأعداد من المنفيين والمشردين عن أوطانهم، وشهدت بلداننا ارتكاب أكبر انتهاكات حقوق الإنسان وأكثرها جسامة من تعذيب وسحل، حتى حرائر مناضلات أو قريبات لمناضلين لم يسلمن في بعض البلدان من الاعتداء على شرفهن.. وفي أوطاننا قتل شباب في مقتبل العمر في طريق النضال من أجل الحرية والكرامة، وتم البطش بالنخب الفكرية من علماء ومفكرين وكتاب وعلقت عقول كبيرة على أعواد المشانق وتم اصطياد أخرى برصاص غادر في الشوارع والطرقات.

 

التحالف الشرير

لقد ظلت الدول الغربية التي تزعم الديمقراطية وحقوق الإنسان تمثل الداعم الأول لهذه الأنظمة سياسيا وأمنيا، وتتولى مؤسساتها الإعلامية والحقوقية التغطية على الجرائم البشعة تلك الجرائم التي كانت بالمناسبة هي المورد الرئيس لأدوات القمع التي ترتكب بها ، وهو ما عبر عنه الشاعر المصري الشهيد "هاشم الرفاعي" ببلاغة في قصيدته ذائعة الصيت "رسالة في ليلة التنفيذ"

وأكون بعد هنيهة متأرجحا * في الحبل مشدودا إلى العيدان 
ليكن عزاؤك أن هذا الحبل ما * صنعته في هذي الربوع يدان
نسجوه في بلد يشع حضارة * وتضاء منه مشاعل العرفان
أو هكذا زعموا وجيء به إلى * بلدي الجريح على يد الأعوان 

لقد كانت هذه الأنظمة واضحة في فهم الرسالة المطلوبة منها غربيا وهي قمع هذه الشعوب وقتل روح التحرر في نفوس أبنائها بما يضمن إدامة الواقع المتعفن الذي يشكل استمراره للطرفين مزيدا من التحكم في مقدرات هذه الشعوب ،ولذلك كان المظهر الوحدوي الأبرز لأنظمة التجزئة هذه هو التنسيق الأمني الذي يشرف عليه مجلس وزراء الداخلية العرب الذي لم يتأثر يوما واحدا بخلافات الأنظمة وأمزجة قادتها المتقلبة، وضمن هذه المنظومة القمعية بقيت وزارة الداخلية في جميع الأنظمة العربية الوزارة الأم الأكثر ميزانية والأقوى كلمة والأشد تأثيرا في حياة الشعوب وهي المطبخ الذي تطبخ فيه المؤامرات على الأحزاب والتيارات السياسية وتزور فيه إرادة الشعوب وتدار منه حملات القمع الرهيبة ضد الأحرار.

وخلاصة القول إن الثورات العربية هي حصاد لعمل نضالي تراكمي ضخم ممزوج بمعانات الأحرار وآهات المعذبين ودماء الشهداء الزكية ولا يهم إن أنكر ذلك المكابرون؛ فجموع الأمة تدرك هذه الحقيقة جيدا، ولقد عبر عن ذلك بوضوح المواطن التونسي البسيط- أحمد الحفناوي عندما أعلنها مدوية :" لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية"، لقد اقتربت الأمة بعد هذا التاريخ النضالي الحافل من تحقيق حلمها الأثير في العيش على أرضها بحرية وكرامة، وكما قال الجنرال ديغول "إن الذين يملكون المستقبل هم الذين كانوا يحلمون به في زمن المستحيل".

17. مايو 2011 - 10:00

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا