العلمية تقتضي مناّ إعادة قراءة التاريخ الثقافي والاجتماعي الموريتاني / باب ولد سيد أحمد لعلي

العودة إلى التاريخ الثقافي المنسيّ والدعوة له لا يعني بالضرورة فسخ الحاضر والهروب إلى الوراء منه بقدر ما يقصد به ضرورة المواءمة بين نمطين مختلفين حالت دون الربط بينهما عوارض الزمن ومقتضيات تفهم تغيره المستمر ، فلا ينبغي الانغماس حتى الفناء في المستجدات التي أملتها ظروف بعينها خارجية أو داخلية ونسيان  كل شيء مرتبط بالإنسان المقصود والمستهدف من الناحية الثقافية والاجتماعية تاريخيا ،

 وأكبر معضلة تواجه البوح في هذا الخضم هي معضلة التنسيق والربط الذي ينتج عنه بالضرورة الفهم المتطلب للاستخلاص والاستيعاب ، وهو شيء لن يحدث دون مراجعة ذلك التاريخ نفسه وفحصه وإزالة اللبس عن شوائبه وتوضيح غامضه لأنه هو الشيء الوحيد الذي يُعبرُ عنّا ويميّزنا عن كل المجتمعات الأخرى ، فهل يمكن إحياء فهم من هذا القبيل وتجسيده واقعا معاشا من أجل الحيلولة دون الانحراف والتبدل السلبي؟ وما هي الآليات التي يمكن من خلالها تحقيق ذلك علمية أو عملية ؟.
لقد حالت فلسفة الصراع المستمدة من فكر ماركس الاجتماعي دون فهم طبيعة التكامل العضوي الذي تعبر عنه البناءات الاجتماعية من خلال توزيع أدوار الأفراد داخل المجتمع ، وهو فهم أثر بكل تأكيد على مختلف القراءات السوسيولوجية التي اتخذت من المجتمع – مهما كانت طبيعته – موضوعا لها كما أثر في نظرة المجتمع لنفسه ولبنائه الاجتماعي التكاملي  في بعض الأحيان ، في نفس الوقت التي أقصت الكثير من المزايا التي تنص عليها فلسفلة التكامل العضوي أو نظرة التكامل العضوي التي ترا المجتمع – أي مجتمع- كلا متكاملا تماما كالجسم ، ولكل عضو دور منوط به ، وهو فهم قد يكون المراد به اكثر تقوية إحساس الاختلاف القائم بين مجتمعين أو أكثر اختلفا عرقيا أو ثقافيا وحتمت عليهم عوامل جغرافية معينة العيش في فضاء واحد ، بالإضافة إلى إظهار التمايز والاختلاف بين المجتمع الواحد ، ليعيش حالة من الصراع الداخلي ، وقد نكون في الوقت الراهن بحاجة أكثر إلى تفعيل مثل النظرة التكاملية ومحاولة تسيرها والاستفادة منها في مقاصد التنمية الشاملة.
طبعا هذه النظرة خفتت قليلا مع بير بورديو الذي قلب الأطروحة الماركسية من الداخل معتبرا أن البناء الفوقي هو الذي يحدد طبيعة البناء التحتي عكس ما اعتبر ماركس بالإضافة فاعلية البعد الرمزي المتمثل ي الثقافة مقارنة بالبعد الاقتصادي الذي يعتبر أساس كل شيء ، وهذه نظرة يمكن أن تطبق إذا ما نظرنا إلى تاريخ الصراع والهيمنة في وإنتاج الواجهة الدينية والعسكرية والسياسية في مجتمعات غرب الصحراء.
فمن الطبيعي جدا أن تتعايش فئات مختلفة في وسط اجتماعي واحد وتحاول كل فئة على قدر إمكانها أن تبرز ما يميزها عن الأخرى بأي شكل من الأشكال ، لكن المسؤولية الأساسية تمكن في الربط بين الجماعات وتوعيتهم حتى الوحدة حتى تصبح واقعا معاشا وإحساس يسكن الوجدان ، وهو أمر ليس بالمستحيل لكنه يتطلب الإرادة الصادقة والدؤوبة لا أكثر.
إن معنى أن يعيش مجتمع معين فترات من الزمن ويترك في ذاكرة الأيام تبعا لتلك الفترات موروثا ثقافيا ثريا ، يكمن في القدرة على استعاب ذلك الماضي وتجديده حتى يتلاءم مع طبيعة العصر الذي يعيشه المجتمع ويكون قادرا على الحياة أكثر لأن ذلك لا يعني شيء غير قدرة المجتمع نفسه على المحافظة على ذاته والعيش بسلام  رغم تتابع الزمن وتغيره ، وليس في فسخه ومحاولة التنكر له بمحاولة استيراد نماذج قد تكون غريبة عن المجتمع ولن تجدي إلا في استلاب هويته بدل المحافظة عليها وتجديدها وهذا أكبر خطر قد يقع فيه .
فمهما كان ومهما أملت الظروف فهناك رواسب يجبُ تصحيحها وهناك إيجابيات تعكس مدى شغفنا بذواتنا وتميزنا عن غيرنا في ظلّ الوحدة الكاملة يجبُ المحافظة عليها وتجديد روحها فترة بعد فترة .
لقد عاشت مجتمعات غرب الصحراء فترات من الزمن المختلفة شهدت فيها هزّات وتغيرات كبيرة حملت في كل منها نماذج إيجابية وإن كانت الطبيعة الجغرافية لها إملاءاتها الخاصة على حسب تعبير "بير بونت" الذي يقارن بين الطقوس الجاهلية القائمة في بعض الأحيان في هذه المجتمعات والشرعية الإسلامية التي ارتبطت بكل التغيرات التي مرت على المنطقة ، فالشرعية الإسلامية هي الوحيدة التي يسعى للتعبير عنها كل حدث مهما كانت أعراق الفاعلين فيه ، لكن إملاءات الزمن تفرض الانحراف بشكل سلسل نتيجة لطول علاقة المنطقة التاريخية بالجماعات الوثنية المختلفة .
لكن وبعد تشكل المجتمع على هيئته الآن وبعد خروج الثقل البشري من مناطق "الكصور" التي كانت حاضنة للثقافة الصنهاجية قبل هجرة بني حسان ، ونزوحها إلى البدو واعتمادها على حياة الحل والترحال ، كانت تقتضي الظروف تقسيم العمل الذي يحدد أدوار الجمعات والأفراد داخل المجتمع ككل في ذات الوقت الذي يرسم الصورة التكاملية له ، وإن كانت تلك الصورة تحمل في ثناياها الكثير من التهميش والإقصاء والظلم لفئات بعينها ، تماما كما كانت تعتمد المجموعات المتحكمة قبل حسان على أصحاب الرتب السفلى في الثراء ونماء تجارتهم عن طريق استخراجهم الملح مقابل الحماية ، فإنها تعبر عن نمط ثقافي خاص.
مشكلتنا الأساسية تكمن في استعاب التاريخ الثقافي والاجتماعي للمجتمع على مر العصور فلا يمكن أن نستمر في طريق الحداثة المستوردة والتي يُزاحمُ الوافد منها المحلي كثيرا حتى يكاد يختفي دون أن نحاول أن نبني حصانة نُميّزُ بها أنفسنا ونحفظها دون الاختلاط مع الآخر المُأثر .
فالثقافة "الكصورية" التي شكلت محطة مهمة للتبادل التجاري وللنهضة العلمية وما في الأذهان من تأثيرات علاقة الشخوص بالفضاء المجاور نتيجة لطبيعة الحياة التي كانت سائدة هناك ، وما تسخرُ به من فهم للتاريخ والواقع وما حاولت أن تُجسد ذلك التاريخ والواقع خلال ذلك من آليات ، بالإضافة إلى الفهم السياسي وما يترتبُ عليه من تقسيم للعمل النخبوي ، وما تركت ثقافة الحل والترحال وتطويع الصحراء وفضائها الشاسع في الأذهان وما تّجسد نتيجة لذلك في المعاملات والعلاقات الاجتماعية كلها أمورٌ تتطلبُ منا الدراسة والإحياء في هذا الزمن الذي لا يشغلُ ذواتنا شيء غير هويتنا والبحث في جذورها التاريخية دون مراعاة كل تلك الأمور الاجتماعية والثقافية.
خاصة وإننا أمام تغيرات شكلية أثرت في بنية المجتمع التقليدي والتي يراع جهارا التخلص من رواسبها السلبية التي أدت إلى ظهور نماذج من التميز والسيطرة أقصت وانتهكت حقوق أقوام بعينهم ، فأصبحت الفئات الاجتماعية والشرائح تتحرك خارج الإطار القبلي القديم التي كانت تحكمها فيه الأدوار الوظيفية الداخلية .

 

13. نوفمبر 2017 - 17:56

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا