بوادر الانهيار الاستراتيجي للمنظومة الاستكبارية الغربية 1-2 / المختار ولد نافع

 

altجاءت الفضيحة الأخلاقية والهزيمة المعنوية التي منيت بها إسرائيل في "معركة مرمرة" لتزيد عبئا على الكاهل الصهيوني المثقل بالهزائم في الفترة الأخيرة عسكريا وسياسيا مما لم يعد يجادل فيه أحد.

، لكنها مع ذلك كانت تنبيها على دلائل هزيمة استراتيجية وحضارية لا لإسرائيل وحدها، وإنما لمجمل المنظومة الاستكبارية الغربية وهيمنتها الاستعمارية على العالم، وإن كان ذلك لا يعني زوال الغرب كشعوب بإمكانها العيش مع العالم بسلام وتعاون. فلئن كان الغرور الذي أخذ بمداخل النفس الأمريكية قد خيل إليها أن القرن الواحد والعشرين سيكون قرنا أمريكيا خالصا؛ فإن العقد الأول من هذا القرن فيما يبدو لا يريد أن يكتمل حتى يقول بفصاحة الأحداث أن القرون ليست لأحد وأن التاريخ ليس بينه وبين أي كان نسب ولا صهر، وفوق ذلك أن سنن الله الكونية لا تحابي؛ فما ثمة أحد اتخذ عند الله عهدا أن يظلم ما شاء ثم لا تحيق به عواقب ظلمه الوخيمة .  لا نريد أن نخدر أنفسنا بالكلام عن اندحار لما يقع، ولكننا نريد أن تُفهم هذه الهزائم الأخيرة التي منيت بها أمريكا وربيبتها إسرائيل منذ "الاندحار" من جنوب لبنان سنة 2000 إلى "الغرق" في البحر الأبيض المتوسط 2010 على أنها ليست هزائم معارك ولا حتى هزائم حروب، وإنما هي هزائم مشاريع. ويتضح ذلك بالمقارنة بين هذه الهزائم وهزيمة أمريكا في حرب فيتنام مثلا فرغم اندحار أمريكا المذل فإنها عوضته على المستوى الاستراتيجي بانتصارات متتالية عاشتها في ذلك التاريخ وضمن المجال الحضاري الجنوب آسيوي (اليابان – كوريا الجنوبية ...) أما في الحالة الراهنة فإن المنظومة الغربية في وجهها الاستكباري تسير من إخفاق إلى إخفاق، ولعل قراءة لمعطيات وميادين صراعها في المنطقة العربية والإسلامية من فلسطين حربا إلى تركيا دبلوماسية توضح ذلك.

 

فلسطين ولبنان : الصيف ضيعت الانتصارات تزخر الهزائم الصهيونية في فلسطين ولبنان بالكثير من المعاني إذا قرأت باستحضار للتاريخ والاستراتيجيا والبعد المعنوي أي بالنظر لطبيعة الصراع وحاجة أطرافه إلى الحفاظ على عوامل القوة المادية والمعنوية باعتباره "صراع وجود"  1- وقد بدأ هذا الاندحار بالانسحاب من جنوب لبنان صيف 2000 ومن قطاع غزة صيف 2005 فتخلي الكيان الصهيوني القائم على الجوع النفسي والتاريخي والديني والأمني إلى الأرض عن مناطق أقام على احتلالها عقيدته السياسية والأيديولوجية والعسكرية يعني أنه نخر "فلسفة وجوده" وإجلاؤه للمستوطنين بالقوة من غزة بعد أقل من ستين سنة من تحقق ما يعتبرونه نبوءة ووعدا إلهيا يعني أنهم بدءوا يخربون وجودهم بأيديهم .  2- وقد تلا ذلك هزيمتان مذلتان في لبنان 2006 وفي غزة 2009 كانت دلالتهما المباشرة أن إسرائيل تجرعت الهزيمة العسكرية لأول مرة بشكل مباشر وعلى يد مقاومة شعبية، أما دلالتهما الأعمق فهي أن إسرائيل دخلت زمن "متتالية الهزائم" وأنها أصبحت في وضع يصدق عليه المثل العربي "المدبر لا يقبل" . 3- وكانت ثالثة الأثافي هي هزيمة إسرائيل في "مسرحها الخاص" ألا وهو الضمير الغربي فحين تصبح مدانة دوليا بتقرير من قاض يهودي، وحين تصنف في استفتاء شعبي في أوربا على أنها الخطر الأول على السلام العالمي، وحين يتجند أحرار العالم في حملة تضامن مع الشعب الفلسطيني جابت البر والبحر فمعناه أن هناك علامة استفهام بدأت تتشكل لا حول أخلاقية تصرفات إسرائيل فقط؛ بل أيضا حول أخلاقية وجودها.

 

أفغانستان : جاءتك بحائن رجلاه غزت أمريكا أفغانستان وإمارتها الإسلامية بعد الحادي عشر من سبتمبر تحت شعار الحرب الوقائية ومقولة بوش "إذا لم نغزهم في دورهم فسيقتلون أبناءنا هنا" لكن بعد أقل من تسع سنين تبين أن العكس هو ما وقع، فالقاعدة التي كانت تبذل الغالي والنفيس كي تطول هجماتها أي هدف أمريكي تطوع لها الأمريكان بالحضور بأرجلهم على نحو ما يقول المثل العربي المشهور "جاءتك بحائن رجلاه " (الحائن الذي حان أجله) . هذا فضلا عن أن القاعدة عادت بعد هذه السنوات لاستهداف الداخل الأمريكي ليس فقط بشباب عرب وإنما بشباب أفارقة (عبد المطلب) وباكستانيين (شاه زاد، "ينمتي إلى طالبان باكستان") وحتى بجنود أمريكا نفسها (نضال حسن) وهذا بغض النظر عن الموقف من ما قام به هؤلاء. أما طالبان فلئن كانت خسرت دولتها فإنها تبدو على وشك استعادتها، وإذا كان ذلك تطلب دفع ثمن فإنها بالمقابل كسبت أنها أصبحت "ماركة خاصة" حين برزت "طالبان باكستان" ولا يُعرف هل ستبرز "طالبان" أخرى. كل ذلك يظهر أن أمريكا اليوم مستنزفة استراتيجيا من طرف الحلف القاعدي الطالباني القوي الشكيمة القائم على مبادئ راسخة. 

 

العراق : يوم عصوف ... ترضيك عقباه لا يختلف اثنان في أن الاحتلال الأمريكي للعراق أعاده عقودا بل قرونا إلى الوراء وقضى على كيان الدولة العراقية الحديثة بعدما كانت رقما مؤثرا في المنطقة، وتلاعب بالإنجازات العلمية والعسكرية التي كلف بناءها عقودا من العمل، بل إنه فوق ذلك فكك النسيج الاجتماعي العراقي، لكن هذا الاحتلال لم يسلم من عواقب فعلته: فما استنزفه من الأرواح والأموال والسمعة كان كله من "رصيد العظمة" اللازم لبقاء أمريكا متربعة على عرش العالم، ومن درس سقوط الدول يلاحظ أنها ما سقطت إلا حين أنفقت رصيد بقائها. هذا فضلا عن المشاكل التفصيلية التي أوقع هذا الغزو أمريكا فيها والتي يكفي في مقاربة كهذه مجرد التمثيل لها بوضعية عشرات آلاف الجنود الأمريكان الذين أصبحوا في مرمى الصواريخ الإيرانية و"متناول أيدي الأعداء" وما سببه ذلك طوال السنوات الماضية من فقد قوة الردع النفسية التي كانت ترفعها أمريكا في وجه الإيرانيين بالتهديد بإسقاط النظام.  ولعل أصدق وصف لآثار الاحتلال العراقي هو بيت للشاعر العراقي الكبير الجواهري من قصيدته المشهورة ""يا دجلة الخير" يقول فيه: لعل يوما عصوفا جارفا كرها آت فترضيك عقباه وترضيني

 

إيران : بقاء المرء بعد عدوه يمتد عمر الاستهداف الأمريكي "للجمهورية الإسلامية" إلى ثلاثين سنة، من يوم أن أسقط آيات الله الشيعة نظام الشاه محمد رضا بهلوي الذي كان يلقب شرطي آمريكا في الخليج ولقد أخذ هذا الاستهداف أشكالا متعددة وإن اتفقت كل الإدارات الأمريكية المتعاقبة على جعله مرتكزا استراتيجيا في السياسة الأمريكية في المنطقة يعتمد على فكرة إسقاط ما تسميه "نظام الملالي الأصولي" فقد بدأ هذا الاستهداف بمحاصرة الثورة وتأليب جيرانها عليها وتخويفهم من سعيها لتصدير نفسها خاصة الدول ذات الأقليات الشيعية ثم جاءت حرب الخليج الأولى التي ألبت أمريكا فيها العراق على إيران وسلحت إيران ضمن صفقة إيران كيت لتطول الحرب وتقضي على العصفورين القومي والإسلامي فيخلو الجو للقبرة الصهيونية تبيض وتصفر .  وإزاء ذلك قطعت أمريكا كل العلاقات التجارية مع إيران ودعمت معارضتها حتى تلك المسلحة (منظمة مجاهدي خلق) وسعت كثيرا لمحاصرتها على المستوى الخارجي مستغلة بعض أخطاء الثورة في مرحلة اندفاعها ثم جاءت إدارة بوش المفعمة بروح الحروب الصليبية والتطرف اليميني والجشع وإدمان الخمرة السوداء (النفط) فصنفت إيران في ديوان الأشرار واستعادت قاموس ريغان في وصم الجمهورية الإسلامية بعدما كانت إدارة كلينتون قد خففت منه نتيجة الثورة الدبلوماسية لإيران خاتمي التي نجحت في اختراق أوروبا والخليج وانطلق بوش إلى طهران مرورا ببغداد لكن الطريق لم تكن سالكة وإيران لم تكن غافلة فارتبكت أمريكا في العراق ارتباكا زادته إيران لتستغل انشغال أمريكا به في كسب الوقت لدفع برنامجيها النووي والصاروخي حين كان الأمريكان لا يعرفون هل يضغطون عليها في "افيينا" حيث الوكالة الدولية للطاقة الذرية أم يحاورونها في بغداد حيث جولات اللقاءات الثنائية حول العراق . وحين جاء أوباما وجد أمامه تركة ثقيلة من الفشل في كبح الطموح الإيراني وظل التذبذب سمة تعامله مع الملف الإيراني بدءا بخطاب النيروز الذي وجهه للشعب "والقيادة" الإيرانيين وانتهاء بحزم العقوبات المختلفة وآخرها الحزمة الرابعة في الثامن من هذا الشهر، وهذا التذبذب أتاح الكثير من الفرص لإيران ومن ضمنه كسب حلفاء جدد (تركيا، البرازيل) كما أن أمريكا لم تربح فيه خطوة ضد إيران إلا بثمن دفعته لمنافسين آخرين (تصويت الصين وروسيا على قرار العقوبات الأخير قابلته تنازلات أمريكية كبيرة). المهم أن إيران آيات الله بقيت اليوم لاعبا بارزا في المنطقة، وسواء أعيق برنامجها النووي أو نجح وسواء عوقبت أو لم تعاقب فإنها وحلفاؤها أصبحوا رقما ذا بال والتفكير في إسقاط نظامها أصبح مجرد خيال .

15. يونيو 2010 - 11:40

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا