خواطر جدُّ بسيطة حول فكرة تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة (2) /

كنتُ أعرف أن أول ابتلاء تعرض له الإسلام تمثل في وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وانقطاع الصلة بين السماء والأرض وإطلاق العنان لفهم البشر القاصر واجتهاداتهم في أمور الشرع الكثيرة ، وكنتُ أعلم أن الخلفاء الراشدون رضيّ الله عنهم تعاملوا مع مسائل لم تظهر زمن النبي حسب رأيهم ورأي أهل شوراهم ، لكن أن يفهم الإنسان أن كل ذلك داخل في مقاصد الشرع الكثيرة وضرورة تجديده ـ أي الشرع ـ

 مع متطلبات الزمن والواقع المعاش وموافقته مع مصالح البشر طبقا لحدوده  ومخالفته لفساد حالهم وأحوالهم فهذا شيء جديد انبثق من فكرة تعزيز السلم في المجتمعات الإسلامية على غرار هذا الزمن الجديد الذي يخالف تماما زمن الصحابة وتابعيهم وتابعي تابعيهم
يشير الشيخ العلامة عبد الله ولد بي في كتابه "مشاهد من المقاصد" تعزيزا لذلك أن أبوبكر رضيّ الله عنه حارب مانعي الزكاة اجتهادا وورث الجد دون الإخوة ورشح الخليفة بعده وأقف عمر بن الخطاب نفي الزاني البكر وعلقّ حد السرقة عام الرمادة ، وباع عثمان بن عفان ضالة الإبل بعد أن نهى النبي عنها ووضع ثمنها في بيت المال ...إلخ ، هذا في زمن الصحابة ناهيك عن مختلف معاملات الفقهاء واجتهاداتهم عبر الزمن وتأثر فتاويهم بالمتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، وطبعا كثير من هذه الأحداث كان معلوما عند أهل العلم لكن دون وعي سياقها أو دون معرفة التعامل معها خدمة للمصلحة العامة في ظل تطورات الزمن وتعاقب فتراته ، وليس العيب في الزمن كما أشار الشافعي في أبياته الشعرية المشهورة بل العيب فينا نحن الذين عجزنا عن فهم مقاصد الشرع فكانت النتيجة إما خُروجٌ مطلقٌ من الواقع والهروب إلى الماضي فعيش الإنسان بذلك رهين مجموعة من التوجسات والأحلام الضائعة التي لا سقف لها ، أو ينحل من كل خيط ناغم للشرع ويفسخه بعد أن يعجز عن فهم واقعه في ظلّ قصره كذلك عن فهم الشرع ومقاصده فهما تجديديا ، فمشاهد الخيال شيء وتشييد بناء العلم على أسس ثابتة راسخة ليكون سكناً وغرس شجرته في بستان المعارف لتؤتي ثمارا شيء آخر كما يقول الشيخ عبد الله ولد بيّ ، من هنا تبرز المهمة الرئيسية للفاهم المصلح الذي يريد أن ينقذ أمة تكالبت عليها الخطوب من كل حد وصوب ومزقتها الاختلافات والخلافات والحروب في ظل تطور مرهب لآلات القوة والهيمنة والسطو ، بدعوة تجديدية تعترف بالواقع دون إبراز ذاتها كأفضل بديل سياسي لتدخل المعترك السياسي من باب الشرع وتبيع فيه وتشتري دون وعي كما يفعل جميع المتجاسرين على الإسلام والمتكلمين بغيا باسمه ، بل إنها دعوة فكرية تربوية تتعامل مع السياسي في إطار العلاقة التي حددها الشرع "أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم" كما قال أبوبكر ، فما دام كل متغلب يحكم بالدين أو باسمه انتماء وعقيدة وفكرا فلماذا  الخلاف والفتنة ؟  أو لا يعلم هؤلاء أن للسلطان مكاره وضرورات وأمور مستحبة دون غيره من أجل ضمان السلم وتعزيزه ...
كأني من قبل كنتُ في أرض لا سماء بها وفضاء مضطرب جدا تحيط به السموم والهواجس من كل حدب وصوب ولستُ للفجر بمبصر ولا لفجاجه سالك ، وكيف لا؟ وأنا محاط بأناس يصنعون من أهوائهم شرعا ومن طموحاتهم السياسية فكرا مقدسا ومسعى نبيل يفوق كل ما هو شرعي في ذات الوقت الذي لا يرون غير أنفسهم صالحين رغم قساوة التجارب التي أفرزتهم ورغم ضيف الزقاق الأعوج الذي يسلكون...
فعندما يكون الشخص غارقا في بحرٍ عميق عميق جدا يتخطفه الموت من شدة الغرق وعجزه عن الإبحار وإنقاذ نفسه وفجأة يأتي من يمد له يدا لا يعرفُ مصدرها وما هدفها فترفعه عنوة للنجاة وبعد دقائق يستفيق ويفتح عينيه على الدنيا من جديد فينظرها إليها بشكل آخر لا شكّ أنه سيقدرُ من أنقذه وسيدين له بحياته ما حيا .
أيها الناس من يسير في البحر لا بد له من ربان وربانٌ عارفٌ حكيم حذقٌ عالم خير من آخر لا يتقن إلا فنه ، فكل ما وسع الباع والإدراك سهل تعامل الشخص مع المستجدات ، وكل ما تعاظمت الخطوب والمستجدات كان حلّ ذلك الربان السحري أسهل ما يكون ، ولا يوجد من هو خير من صاحبُ دعوة تغرف من معين الشرع غايته وتعي جيدا متطلبات الواقع وتستشرف بحكمة مآلاته...
فالباحث لا بد له من مشكلة والمشكلة لا بد لها من حلٍ والحلُ يتطلبُ الأدوات الموضوعية التي تراعي الواقع وتستشرف المستقبل بكل وعي وبكل مسؤولية بعد معرفة كل الأبعاد المشكلة لها ، فلماذا لا نتغاضى عن السياسيين والحكام قليلا ونعمل معهم سويا دون النبش في الأسباب التي أتتْ بهم إلى الحكم على الرغم أنها معروفة في التاريخ السياسي الإسلامي كلها من أجل المصلحة العامة ما داموا جميعا في طاعة الله يسيرون ومن شرعه يحكمون ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا؟ فقط لأن النظر إليهم من زاوية غير هذه قد تجعل الأمر كبير والخلاف الذي ينخرُ جسمنا الإسلامي أشد وطأة وأطولُ عُمراً
لكن المعضلة الأكبر التي تواجه أي كائن من كان وهو يتعرف على هذا الفكر ويكشف من خلاله غوامض الشرع وعجائب فهم الشيخ له واعترافه بالواقع وفهمه كذلك فهما عميقا في إطار يراعي المصلحة الكلية للعباد ويعي جيدا التغييرات الكبيرة التي طرأت على البشرية سياسيا واجتماعيا واقتصاديا هي كيف يسوغه للناس عامة وخاصة حتى يحدثُ السلم المتوخى وتتحقق المصلحة المنوطة من كل ذلك ؟.
طبعا الإجابة على هذا السؤال حسب مقتضيات فكر الشيخ لا تعني الدخول بالشرعي في الإطار السياسي لمزاحمة أهل السياسة في شؤونهم ، بل تعني الاهتمام بالفكر وبث القيم السليمة من أجل توعية الناس وتثقيفهم وإشاعة ثقافة السلم والعدل والتفاهم، وهو وربي كنز استحال على الناس قبله ونحن في أمس الحاجة إليه كي نعيد لأمتنا عهدها الذهبي ونلبس العراق ثوب عزته الممزق ونجعل الشام المكسورة فوق الرؤوس درةً كما كانت في سابق عدها ونطفئ النار أينما وجدت تحقيقا لمقتضيات السلم كما أصلت فهما ووعيا في فكر الشيخ عبد الله.   

4. يناير 2018 - 1:09

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا