المساومة السياسية : مغالطات ساسة موريتانيا / عبيد ولد إميجن

أصبحت المحاولات المتكررة من قبل المعارضات السياسية وربيبتها الأنظمة الحاكمة في حالة من الشد والجذب والتخبط إزاء التعاطي مع إدارة الشأن العام والتنظير له، فكــان أن وصف أحد دعاة حقوق الانسان هذه الوضعية بحالة غـرام تعتري الطرفان بحيث يمكن أن يظهرا كوجهان لعملة واحدة، فالأنظمة السياسية لم تفشل يوما في استقطاب الجهات المعارضـة متى أرادت ذلك، كما أنه من نافلة القول أنه منذ العام 1978 باتت اقطاب المعارضات التقليدية

 جزءا مشاركا ومساهما في الحكومات والإدارات والاجهزة التشريعية، دون أن ينعكس ذلك على تحقيق الخلفيات النضالية للمعارضين السابقين؛ فهل هي حالة مساومة؟ أم هي مغالطات سياسية؟
هنالك مصطلح شائع لدى الساسة الموريتانيون وهو مفهــوم  "عقد المساومة|>Contrat Gré à gré"، والغاية من هذا المفهوم الشائع في الصفقات في المجال العمومي هـو تعاقد يتم بين طرفين عن طريق المناقشة الحرة لشروط الصفقـة ومجالها و أرباحها، وسنرى ذلك من خلال بعض من جزئيات الحياة السياسية في موريتانيا.
بعـد سقوط الرئيس المنتخب ديمقراطيا؛ سيدي ولد الشيخ عبدالله في أغسطس 2008 بادر زعيـم المعارضة الديمقراطية أحمد ولد داداه الى مباركـة الانقلاب العسكري ووصفـه بكونه "حركة تصحيحية" مباركـة، وهـو بذلك كان يمهد لحصول فترة انتقالية يمكنها ان تفضي الى مناصرته من قبل كبار ضباط المؤسسة العسكرية (الحكام الفعليين) !، ولكـن ذلك لـم يتحقق في النهاية مما حدا به للتموقـع ضمن المعارضـة الراديكالية!؟
نفس حالـة المساومة تبدو واضحة وصارخة لـدى قادة حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (تواصل) حيث ساوم الحزب على موقفه بعيد الانقلاب أيضا وفـق صيغه المعارضـة الناصحـة قبل أن يصدر وثيقـته "إصلاح قبل فوات الأوان" والتي افضت الى انحياز الإسلاميين الى المعارضـة الناطحـة.
الأمـر ذاته ينطبق على موقف حزب الوئام الديمقراطي الذي تحصـن رئيسه وراء شعار "المعارضـة المسؤولة"، من أجل تبرير انتهاجه للحوار السياسي سنة 2011 مع نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز، ولكــن سياسـة المساومـة الوطنية ليس نتاجا لمثل هذه الهيئات السياسيـة بل هـي ماركـة مسجلة تنظيرا وتطبيقا للحركة الوطنية الديمقراطية وخاصـة حزب اتحاد قوى التقدم (UFP)، فالأدبيات السياسية لدى قادة الأخير ورموزه تميل دائما الى عنصر المفاوضة ومن ذلك وثيقة المساومة التي أبرزوها سنة 1998 حيث حاور قادة الحزب علنا وسرا نظام الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد الطايع، فما هي المساومـة السياسية؟ 
تكثر الأدبيات اليسارية من تناول موضوع المساومة حيث ترجعه الى الزعيم البروليتاري الكبير لينين والذي خصص في كتابه عن مرض اليسارية الطفولي في الشيوعيّة حيزا معتبرا للحديث حول المساومة ومدى مشروعيتها وأحقية الأطراف في الدخول في المساومات، وبودي أيضا أن أثير اشـكالا أخلاقيا في هذا الصدد من يمكنه أن يساوم من؟ وعلى أي أساس؟!

المساومة هي احدى أدوات العمل السياسي وأدوات التفاوض والتحاور، فمثـلا يمكننا إيراد هذا المثال فإبان انعقاد احدى جلسات الحوار الوطني الشامل المنعقد مؤخرا أراد أنصار حزب التخالف الشعبي التقدمي التطرق لفحوى المادة 26 من الدستور التي ترتبط بعمر المرشـح لشغل وظيفة رئيس الجمهورية، فكان الرد مساوما من قبل نظرائهم من الحزب الحاكم الـ(UPR) حيث طالب الأخير بفتح المأموريات الرئاسية (المادة 28)، وبهذا ترتبط المساومـة بالرغبة في تحقيق المكاسب والمصالح، والممارسة السياسية هي كذلك تفرض على الأطراف المتحاورة عدم اللجوء الى العنف لفرض آرائهم أو مواقفهم وبالتالي فلا يوجد بديل عن المساومة للوصول إلى التسوية التي هي غاية العمل السياسي، وفقا للمنطق الميكيافيلي، وعلى أهمية البعد الأخلاقي الا أن المساومة السياسية ترتبط في كثير من الأحيان بقدرة الأطراف على تقديم التنازلات من اجل عقد "صفقة رابحة" لكلا الطرفين، ونحـن بوعينا او بغيره نعقد يوميا هذه الصفقات فحتـى عندما يحدث التجاذب بين البائع والمشتري حول ثمن سلعة ما فهما يمارسان يُمارسان المساومة على طريقتهما.
إذا كان الهيئات النقابية تساوم أرباب العمل (الدولة والخواص) من خلال المفاوضات الجماعية التي تنعقد دوريا وذلك بهدف تحقيق اهداف نقابية من ضمنها الراتب المناسب والاجازات والنقل والتغطية الصحية والضمان الاجتماعي، فهـل يمكن لمنظمات حقوق الإنسان ودعاة الحقوق الدخـول في مساومات على الحرية والمساواة والعدالة، الأكيـد ان الجواب سيكون كلا ! أو بالأحرى أخلاقيا وانسانيا لا يمكنها اللجوء الى المساومـة وعقد الصفقات وفق تلك الطريقة..؟ ما يمكنها فعله هـو مواصلة الضغط واطالة النفس فنشطاء حقوق الإنسان لم يوجدوا لتحقيق قيـم آنية بل لمواصلة مسيرة الإنسانية نحو الرقيّ والوقوف إلى مصاف الشعوب المتطلعة إلى حياة أفضل.
وبهذا تكون المساومات حول معضلات كالعبودية وملفات الإرث الإنساني وحقوق المرأة والهويات العرقية والإثنية غير مقبولة أخلاقيا، ولا تنسجـم مع السوية الوطنية المأمولة ولا تنم عن الاستعداد للمساهمة الفاعلة في بناء موريتانيا على منهج قويم ومستدام، وقـد يقول قائل أن المساومات التي تجري بين الفينة والأخرى بين التشكلات الحزبية والنقابية والأنظمة الحاكمة لم تفضي في يوم من الأيام أو حقبة من الحقب عن بلورة تسوية قـد يتم على أساسها اتخاذ قــرار نهائي بشأن القضايا الاجتماعية والسياسية وشكل الدولة الديمقراطية، فيمكننا القـول أنه ما دام الاستقرار السياسي غير مستتب فسيظل بإمكان السلطات التي تأتي  وترحل أن تتنكـر لأي تنازلات مقدمـة أو ايضاحات محققة، وبالتالي ستتحول المكاسب الى مغالطات وسيعاد تغييب أطراف اللعبة السياسية من جديد إن لم يعد رسم المشهد برمته لا أملا في قيام "مساومة مفترضة" أخرى.  
يمكن للدولة نفسها أن تدخل في مساومات مشروعة مع من يخرقون النظام أو القانون أو يتعرضون عن عمد أو بالمصادفة إلى سلامة المجتمع أو يتجاوزون القانون كحالة المجموعات الإرهابية والسلفية الجهادية التي دخلت معها الدولة الموريتانية حوارات فكرية وفقهية سنة 2011، وقـد أسفر تلك المساومات عـن "توبة" وتراجـع بعض هذه المجموعات مقابل انفتاح الدولـة على الطموحات السياسية للسلفية ومساعدة التائبين على بدء حياتهم من جديد!.. ولكــن بنفس المنطق يثار التساؤل لماذا لا تحاور الدولة أيضا المجموعات التي تُحِسُ بالغبن والتهميش والعنصرية؟ فهذه المجموعات تمثل مصلحة مشتركة لجميع الأطراف الوطنيّة أو هكـذا يُفترض.
في الحلقة الموالية : نعرض لمقترحنا لحـل المعضلات الاجتماعية والثقافية المثارة داخل الساحة الوطنية "المصالحة والمصارحة".

26. يناير 2018 - 11:44

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا