الفقهاء والساسة ، والغلبة والرضوخ ، وأصل حفظ الدماء / باب ولد سيد أحمد لعلي

منذ أن انتهت الخلافة الراشدة وظهرت القبيلة التي حارب الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل على تفكيكها في دولته وبناء وعي جديد بين مواطني دولته على أسس وأبعاد عقدية أكثر من أنماط التضامن الاجتماعي المتعارف عليه سابقا قبل الرسالة السماوية لذلك كانت أول حرب قادها الرسول في دولته الإسلامية ضد بني عمومته ـ غزوة بدر ـ ، والشعوب الإسلامية تتخبط في طلاق بيِّنٍ بين الفقهي والسياسي وفي جدلية متغيرة غارقة في صراع طويل

 المدى وبعيد المرامي ومدلهم المآخذ من أجل السيطرة والتوجيه ، فتقابل فساد السياسية بفساد الفقه وصلاح السياسية بضمور الفقه أو تمرده وقلّ أن يتزامن صلاح أحدهما مع صلاح الآخر وهو أمر بالكاد يكون غائبا تماما عن الدراسة الأكاديمية التي تتوخى التوجيه والتحليل والتبين لكي يستفيد كل شخص منها .
فمتى يمكن أن نفهم التغلب كواقع سياسي معترف به من أجل صون الدماء وحقنها؟ وفي أي الظروف يمكن أن نرجح تلك المعادلة على كل اعتبار ؟ وبما نفسر رضوخ النخبة بناء على ذلك لأي متغلبٍ هم يعتبروه دونهم مستوى وليس أهلا للقيادة في وجودهم؟ وما هي أنجع السبل؟
طبعا السياسية وحب التغلب والسيطرة طبع بشري خالص يتجلى أكثر عندما يكون الشخص واقعا في دائرة التحكم والنفوذ من اجل أن يمرر رأيه الخاص خدمة لمصالحه الشخصية أو لأي مصلحة أخرى ، ولا نستطيع أن نقول ونحن في بداية هذه الأحرف التفسيرية أو التأملية غير أن القائد والقانون يجبُ أن يكون في خدمة الضعفاء لكي تتحقق أبسط غايات الحكم التي هي العدل ، وقد لا يتأتى ذلك من النخبة العلمية فقط بل إن الضمائر الحية كفيلة بتحقيق ذلك إذا ما كان حولها أشخاص ذوي نيات صادقة عارفون بأحوال البشر وظروفهم ومقتضيات السياسة ومكامنها هذا فضلا عن العلم الشرعي الذي هو أساس حياتنا ، ولقد بيّن بن خلدن في مقدمته العلاقة بين الشخص الحاكم وحكمه في نظرة عقلانية أكثر لجدلية التأثير والتأثُر بين الاثنين ، واعتبر بناء على ذلك أن للحكم طبائع وأغراض تفرض نفسها على الشخص الحاكم من صلاح حكمه واستمراره ، وهو أمره أثبته بالنظر إلى تاريخ الخلفاء المسلمين كله ، كما أثبتته التجارب الحية كلها التي نعيشها اليوم بدء بالوعود التي يطلقها المرشح الرئاسي الجديد من أجل إقناع الناس ببرنامجه مرورا بالتحكم والغلبة وانتهاء بالعلاقة الحادة بين الحاكم ومن يعتبرُ مناوئا شرعيا له أو صاحبُ حق يكفل له القانون التعبير عن رأيه المخالف للحاكم وحكمه.
فصاحب الوعود الانتخابية يودعها كلها عندما يدخل باب القصر الذي صارع كثيرا من أجله ، فقط لأنه أمام ظروف وقضايا معقدة وشائكة مرتبطة بصلاح الجميع وأمنهم وهي غاية أولى من كل وعد فيفهمُ الناسُ أن خذلهم والحكيم من استطاع أن يوائم بحكمة بين الإثنين ، كذلك والمتغلبُ بالحكم جاء من الإصلاح بغض النظر عن ما يترتبُ على ذلك الإصلاح من أمور شخصية أكثر ولا يرضى لمناوئيه الكلام فيما يخدمُ هدفه الكلي وكذلك ليس في أيْدي مناويه أي شيء سوى الانتقاد أو الامتعاض ، كحال من يرى نفسه مراقبا لعمل الحكومة وناقدا وموجها لا يملك إلى ذلك ، ولو تغيرت الظروف وجاء به الأقدار إلى الحكم لما كان في وسعه سوى الاعتراف بالواقع الذي كان يسيِّر خلفه "المستبد" فقط لأن طباع الملك والحكم فرضت نفسها عليه وذاته ارتبطت به وعليه أن ينسى كل شيء كان معه قبل تلك اللحظة وإلا عاش نوعا من الانفصام الشخصي الشديد يكون مؤداه في النهاية ضياع حكمه ...
إننا أمام واقع عربيٍ متأزمٍ جدا وسياسية مضطربة وقادة لا يحكمون وشعوب لا تعرف حدود مصالحها الكلية كثيرا وعلينا أن نسعى إلى تجاوز الوقت الراهن بالحكمة والعقل لا بالسيف والقتل ، لأن نتائج تدمرُ أكثر مما تبني ونحن لها مجربون أكثر من أي شيء آخر ...
ولا أرى ضرورة في تقسيم أمة محمد بحسب الأفكار والمعتقدات والأيديولوجيات السياسية والفكرية من أجل فرض نمط معين ، على كل الشعوب ما دامت جميعها أو أجلها إسلامية ومسلمة ، ولا ينبغي تبرير إسلامية السياسية برفض الواقع وتكفيره من أجل حدمة مصالح لن تكون مغايرة للواقع كثيرا ما لم تحدث تلك النقلة المعرفية والفكرية التي نحلمُ جميعا بها...
والغريب أن تكفير القادة والحكام ليس أمرا جديدا أو مستجدا في عصر اليوم فمن قرأ فتاوي وأحكام محمد بن عبد الكريم المغيلي يعرف أن الأمر قديما ، فقد كان يدعوا للجهاد ضد حكام عصره في المغرب ويدعي الشرف والولاية قبل أن ينتهي به المطاف منفيّا في حيث تخوم دول السودان بمالي وبالضبط إلى حضن "الأسكا سوني عالي" المعرف باضطهاده لعلماء تمبكتو في ذلك الزمن " نهاية القرن الخامس عشر"  نفس الشيء نجده هنا في موريتانيا  في دعوة ناصر الدين التي كانت تحاول تحسين العلاقات مع الحكام الفرنسين في تلك الفترة بالسنغال في ذات الوقت التي تكفر الأمراء هنا وتدعو إلى محاربتهم من أجل إقامة دولة إسلامية ، وهو أمر كانت له تبعات وخيمة لا زلنا نعيش إلى حد الساعة بعضا من مخلفاتها الاجتماعية كعقد وأعراف وعادات لا تزال جاثمة ...
ليس عيبا أن ندعو إلى قيام دولة إسلامية في ربوع الكفر بعد أن هدى الله أهلها لكن المشكلة أن نقوم بمثل هذه الدعاوي في أرض مسلمة مهما كانت مساوئ أحكامها أو أخطائهم دون أن نكون لهم أهل شورى ونصح ، وأعتقد أن عواقب الإثنين ليسا سيان لمن اعتقل واعتبر أن الأصل في الدين هو صون دماء المسلمين بالنظر إلى خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع .

1. فبراير 2018 - 18:10

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا