التيه (2) ... لحظة الكشف التي أخطأت لحظتها الزمنية وغيّبها السراب / باب ولد سيد أحمد لعلي

غادرتُ "هنداً" وأنا هائمٌ على وجهي تكبلني الوساوس والهموم وتلعو بيّ مداءات همومها أطوادا من الكشوفات في وحل السراب ، لم أفهم شيئا ولا أريد أن أفهمه من حديثها الشجيّ والممتع والمميت يكفيني ما أنا فيه وما تبينّ لي كشفا من المعاناة التي تعتصر في أحضان الزمن على مرأى ومسمع التائهين الحاضرين ...

هناك خلف تلك التلة يمكن أن ينزل بي أفقي في الهدوء قليلا وأحتسي كوبا من الراحة بعد طويل التعب ، فلا يوجد ما هو أشد عذابا من عتمة التفكير في عتمة اللاوضوح ، وهنا تحاصرني أشواك العتمة ليس من فعل تبصري للواقع بل من فعل محاولتي التمعن فيه من زاوية الجنون والنظر في واقعه بعين الناقد لا بعين الراضي الذي يسعه العيش في كل شيء مهما كانت ظروفه ...
نزلتُ وإذا بنخلة وحيدة خلف تلك التلة وسط قطَعٍ من الرمال الدائر كانت تلك النخلة تشبه أيام العز كثيرا حسب ما قالت لي جدتي سابقا عنها ، فقد أخبرتني أن النخل له مكانة خاصة في قلوب العرب وأنه نبتة عربية بامتياز ، كانت رحمها الله قومية جدا ، ولم أقدس كلامها كثيرا لأني شخص لا يؤمن بما تؤمن به كثيرا وأرى الحياة من زاوية أخرى ، وهذا طبعا لا يفسد للود قضية فقد كانت أحاديثها عن قصص العشاق والمتيمون وغارات بني تغلبٍ وفتوحات خالد وجيوش بني أمية وجمال المرابطين التي دكوا بها حصون أروبا وسيطروا عليها بها ممتعة جدا غاية الإمتاع ، وكان زمنه جميل في تشكُّل المجد الذي نتيه بحثا عن مخايل لونه المترامي في أهداب السراب .
اتكأتُ تحت تلك النخلة وفي ذلك المكان المنحدر جدا والموحش جدا والذي يذكرني بحكايات جدتي المتوفاة قبل تشكل معالم هذه الحضارة منذ زمنٍ بعيد ، وأخذتُ أسترجع قليلا من أنفاسي التائهة وذكرياتي المفعمة بالأمل والضياع والمضطربة إلى حد الجنون عساي أفهمُ ولو فيضا من أحاديث تلك المجنونة ، وأنا أفكرُ في تفكيري هذا وفي أنجع طريقة من أجل السيطرة على أنفاسي المتوترة إذا بعالم من الدخان يقتربُ من مداي قليلا فيه ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعت ولا أظنُ أنه خطر على بالي منذ ولدتُ ، أشياء تشبه الخيال لكنها أمام عيوني متشكلة ، نساءٌ يطاولنّ شمم الجبال ورجالٌ يتبعن هنّ وينظرن فقط دون أن يحركوا ساكنا غربا من ذلك الدخان الذي يشمل كل شيء وعلى الناحية الأخرى بحرٌ يزحفُ ليس قادما وإنما كأنه يحاول الهروب أو العودة إلى مكان لا أعلمهُ وخلفه ما في داخله من كائن يزحف في مشهدٍ محيّرٍ جدا وعلى مدى البصر فوقه في مكان كأنه بين السماء والأرض رجال لا لون لهم يشربون مياهه غير آبهين بأحد من العالمين ويتقيّأونها بعد شربهم لها في فضاء الله خشية أن ينتفع أحد بها وبما فيها من كنوز وخيرات ...
وعلى الجانب الآخر المضيء قليلا عجوز تبكي وفتاة حسناء تمشط شعرها وتعتني بها غاية الاعتناء وتحاول جاهدة أن تواسي جراحها وأن تخفف عنها قليلا من ألم الذكريات ، اقتربت قليلا منهما لأنهما أخف ما يمكن التقرب منه بعد كل هذا التوجس والتخوف والرهبة العظيمة ،سلمتُ فردت العجوز السلام والفتاة لم تأبه بي وكأن لم يأتي إليها أحد ، قالت لي العجوز من أنت؟ فلم أدري ما أقول لها ليس عجزا عن الكلام ولكن جهلا مطلقا بمن أنا!! فقلتُ رجل يحبُ أن يسأل عن شأنك أنت وهذه الحسناء المريب ، قالت لي وما شأنك أنت أيها المسكين؟ قلت لا شيء ولكنه فضول ...
صاحت بأعلى صوت وبكت وأخذت تمزق ثيباها والحسناء تحاول أن تلم كل شعرة خرجت من جسمها ، وكأنهنّ دون العالم يعيشن ولا يرون ما أرى من هذا الدخان الذي يملأ كل الأنحاء ، قالت ليس بي شيء وإنما فقط أجد لذة في البكاء فمن لا يبكي ليس بعاقل ولا يوجد في قلبي متسعٌ للفرح أبدا فقط لأني أنتظر موتي منذ زمن دون جدوى وهذه الفتاة الحسناء قد ردت مئات الخطاب خشية أن تتركني وفرطت في جمالها وفي ما حباها الله من حسن لأجل شيخوختي وأنا جدتها الثالثة من أمها جزاها الله خيرا فقد كانت جدتها التي هي أمُّ أمّها وابنتي غير مهتمة بي مطلقا وعوضني الله بعد طول العمر وبعد أن مررتُ بكل هذه السنوات وعافني الزمن وعفته وتعودتُ على الآلام فيه وتخرجتُ أرفع كليات الحزن والأسى منه بها ، فليت أمي لم تلدني لأشهد موت عزي وأنا ألتحف الأيام وأطاول عمري الذي وضعته ههنا عبثا ، وليت هذه الحسناء كانت كاللواتي يتسلقنّ ذلك الجبل دون الرجال ويصنعنّ زمنا على عكس ما شهدنا وما تعلمنا ، فهمتُ قليلا من مغزى حزنها لكن دون جدوى لم أفهم هذا الدخان وذلك البحر الذي يشربه أؤلائك المتوحشون الشرهون الذي لا يقدّرون إنسانا حسب ما يبدو من أفعالهم ، وتقدمتُ خطوات عن تلك العجوز وابنتها ونظرتُ فوقي فإذا السماء قد اختفت فرعشتُ وغضضتُ بصري ونظرتُ بين أقدامي فإذا بجماجم الموتى تحتي تلتحف الأمل وتضحكُ من مصائبي الكبيرة  إنه مشهدٌ مروّع حقا لكنه يبدو منطقيا إذا ما حاول أحدٌ الغوص هُياما فيه والسباحة في عالمه جذبا دون تعقلّ
ربما كانت جماجمُ الموتى وحدها التي يمكنها الضحكُ منّا وربما كان تطاولُ تلك النسوة على قمم الجبال يأتي من تقاعس الرجال وعجزهم عن ذلك وربما لم يشرب أؤلائك المتوحشون البحر بهذه الطريقة إلا عندما فرط فيه الخيرون وربما كانت "هندٌ" على حق وهي تكلم جنونها بجنونها وتسعى جاهدة للهروب من عالمها العاقل إلى عالمها المجنون وربما كل هذا الدخان كان من أخطائنا وشقوتنا الخطيرة ...
وبعد دقائق طويلة دخلتُ فيها هذا العالم الرهيب عدتُ إلى نفسي فإذا بها رؤى انتابتني جراء نومة سرقتني وأن في عمق حيرتي وذهولي وإعيائي ، فجلستُ مرتبكا فإذا بجذع النخلة قد أكله الدود وهي هاوية تكاد تسقط إن لم يتداركها أحدٌ من العالمين
سامح الله تلك النخلة وليتني لم أتكئ لتتراءى لي كل هذه الأشياء فأنا في غنا عنها كلها ولستُ في حاجة للمزيد من الهموم والتوجسات لكن ما العمل إن كان هذا هو مصيري تماما كما حال "هند" التي أراحها الناس كثيرا حينما اعتبروها مجنونة
يتبع.... 

6. مارس 2018 - 8:06

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا