قراءة في الوضع السياسي الراهن / ذ.محمد فاضل ولد الهادي

ليس يخفى على أي متتبع للساحة السياسية في موريتانيا، خصوصا في الفترة الأخيرة، ما عرفته هذه الساحة من أحداث متلاحقة و مفاجئات لم يكن يتوقعها المراقبون. و لأن المشهد السياسي مرتبك و مربك و متشعب و متناقض في المعطيات و التصريحات و التحركات سواء على مستوى الأغلبية من جهة أو على مستوى المعارضة المحاورة أو المعارضة الراديكالية بقطبيها المنتدى و مجموعة الثمانية، و لأن غالبية من كتبوا بإسهاب لم يهتموا سوى بقراءة مبنية 

على المعطيات الظاهرية لأحداث و لم يغوصوا، حسب ما قرأت، في أعماق الأحداث و مكنونات التوجهات السياسية على كافة الأصعدة، رأيت أن أحاول تقديم قراءة معمقة لما جاء به أغلب المحللين السياسيين.

و هنا لا بد لي أن أنبه على أنه عادة ما تكون تحليلات الكتاب مقيدة بإكراهات سياسية، أو عوامل فكرية، تؤثر أو تصوب بشكل أو بآخر القراءة التحليلية للأحداث و دلالاتها و تبعاتها و المقصود بها و المقصد من ورائها، و لأنه من البديهي أنني لست بضعا من أولئك الكتاب و لا أخلوا بطبيعتي و طبعي من اكراهات سياسية، و أخرى مهنية، تحتم هي الأخرى علي أو تفرض على الأصح على تحليلاتي و قراءاتي أن تأتي بشكل معين، رأيت أن أنبه أني من خلال هذا المقال التحليلي، سوف أساهم من خارج تلك العباءة السياسية أو ذلك الانتماء الفكري لكي أخرج بخلاصات قد تكون معينة في فهم ما جرى و يجري في الساحة السياسية الوطنية.

و لأتخلص من تلك الاكراهات أنبه هاهنا أنه على المترصدين و الباحثين عن أدلة لصالحي أو ضدي أن لا يتعبوا أنفسهم، لأن المقال سيكون تحليليا، ليس فيه انحياز لطرف على حساب آخر، لذا وجب التنبيه.

لم تعرف موريتانيا استقرارا سياسيا منذ نشأتها و لم يحكمها حاكم براحة بال و لا طمأنينة يوما، فكل من حكموها كانوا دائما عرضة لنكسات و انتقادات من هنا أو هناك حتى خرجوا من السلطة، هذا ما نعرفه جميعا مولاة و معارضة و غير مسيسين.

فالشعب الموريتاني بحكم تركيبته العرقية و القبلية كان دائما من الصعب على نظام حكم من الأحكام التي تعاقبت عليه أن يجمع كل الموريتانيين تحت مظلة واحدة سواء بالحكمة و التسامح، أو بالشدة و الغلظة.

و ليس من الوارد اليوم، في ظل حرية التعبير و كثرة الأحزاب السياسية و التجمعات و النقابات و التنظيمات و المبادرات، أن يتمكن جناح سياسي أو نظام حكم من جمع كل الموريتانيين تحت لواءه و في خندقه السياسي، و لهذا يظل مفهوم التوافق بين الأقطاب السياسية نسبي و ضئيل جدا و احتمالات التفاهم السياسي تكاد تكون معدومة.

ليس هناك من وسيلة يمكن استخدامها لضمان التوافق السياسي بين مكونات المشهد، و ليس هناك من طرق سحرية أو غير سحرية للوصول إلى توافق أو تفاهم، أقله، بين الفرقاء السياسيين لأن الموانع كثيرة و المحفزات قليلة جدا.

دوافع التوافق السياسي :

النظام بطبيعته يبحث عن التوافق لأنه من خلاله يمكنه ضمان الكثير من الامتيازات التي تتيح له الفرصة للقيام بدوره و انجاز مهمته، و تفتح له آفاقا كثيرة، على الصعيد المحلي و الخارجي في مجالات الاستقرار و الامن و الاقتصاد.

و لأن مفهوم التوافق السياسي "معين" لا يستهان به في ضمان الاستقرار الاجتماعي و ضمان الامن على المستوى الوطني، و كذلك له دور كبير في تعزيز ثقة المستثمرين و المقرضين من المؤسسات الدولية التي تأخذ التوافق السياسي كمؤشر جيد على إمكانية اقراض الأنظمة.

المعارضة من جهتها تحتاج التوافق السياسي مع النظام للحصول على ضمانات تعينها على البقاء في المشهد و حصد المكتسبات بشكل يقنع أكثر مناصريها بأهمية الدور الذي تلعبه و أهمية الأهداف المحققة في هذا الصدد.

و يعتبر التوافق أيضا، بالنسبة للمعارضة، أساس من أسس زيادة الثقة على المستوى الخارجي مما يتيح فرصة الحصول على مصداقية دولية لا يخفى ما لها من أهمية و تأثير على المشهد السياسي المحلي.

فالأحزاب المعارضة تحتاج، مثلها في ذلك أحزاب الموالاة، إلى اثبات قدرتها على تكوين شراكات خارجية و تعاون تضمن به الرفع من مستوى قادتها و أطرها و تعينهم على حصد المزيد من الخبرة في كافة المجالات و على كافة الأصعدة.

هواجس التوافق السياسي :

يخشى النظام دائما من أن يظهر بمظهر الضعيف أمام المعارضة و الخائف على مكانته في المشهد، و قد يصل خوف النظام درجة التحسس من مجرد الاشتراك مع المعارضة في قاسم واحد، أحرى أن يشاع عنه أنه بات على توافق شبه تام مع المعارضة، لأن ذلك قد يهز الثقة في هيبته و قدرته على اثبات أنه الأقوى سياسيا و الأقدر على الاستغناء عن الطرف الآخر.

و لكن هذه الهواجس لا تمنع النظام من البحث عن طرق تسمح له أن يقترب من المعارضة أو بالأحرى أن يقربها منه و أن يشركها في صنع الأحداث المهمة خاصة الانتخابات و هو ما يسمى إضفاء الشرعية على النظام، بمفهوم الاعتراف به كنظام كامل الصفة.

المعارضة بدورها لها هواجس و من أهمها هو تلك "العزة بالنفس" التي غالبا ما تؤثر سلبا على كل تحرك في اتجاه الوفاق، و ذلك الهاجس المسمى الخوف على المصداقية و محاولة إعطاء الدليل القاطع و الغير قابل للتأويل على أن المعارضة معارضة حقيقية، لا تحاور، و لا تتقرب من السلطة، و لا تثق فيها، مبرهنة على عدم الثقة من خلال عدم القبول بالجلوس على طاولة المفاوضات بشكل علني مع السلطة، و هو ما يمكن وصفه بالخوف من خسارة ما نملك، على قاعدة : حفظ الموجود أولى من طلب المفقود.

المعارضة أيضا بسبب تراكماتها تخشى أن يقال أنها تراجعت عن موقف كانت تعرف به، ظانة بأن ذلك قد يفتح الباب لاتهامها بالتذبذب و انعدام التركيز.

صراع الأقطاب و الأجنحة :

من المعلوم أن الموالاة إنما هي مجموعة من الأجنحة التي تتفق على شيء واحد، هو الدعم المطلق، دون قيد و لا شرط، لشخص الرئيس، و الخلاف فيما عدى ذلك، خلاف له تأثير إيجابي من حيث إعطاء صورة على أن الذي عليه الاجماع هو فقط الرئيس، و هو ما يعتبر اعتراف ضمني بأنه ليس هناك بديل للرئيس، رغم أن التاريخ يشهد بأن الشعوب عاشت بعد زعماء لم يكن يُظن أنه يمكن الاستغناء عنهم أبدا.

أما المعارضة فلها صراع من نوع خاص يؤكد على صحة ما يشاع من انعدام التوافق بين أطرافها.

ففي المعارضة يوجد فصيلان الأول هو المنتدى و يضم في صفوفه شخصيات تسمي نفسها "المستقلين" ليست سياسية و لا علاقة لها بالسياسة، فقط اهتمت بأن يكون لها دور فيما لا تعرفه فكان أن أثرت بشكل سلبي على المنتدى و بشكل أكثر سلبية على المشهد السياسي، و باتت هي أداة من أدوات الضغط و التقييد السياسي.

أما الفصيل الثاني مجموعة الثمانية فهو عبارة عن أحزاب سياسية معارضة و راديكالية تمتنع عن أي دور ما دام النظام قائما و ترفض التفاوض معه أو فتح الباب لأي نقاش مهما كانت طبيعته، لأنها تعتبر أنها فقدت الثقة فيه كما فقدتها فيمن كان قبله، فهي إذا رافضة بشكل قاطع أن تخاطب النظام، أحرى أن تجلس معه على طاولة المفاوضات.

اللجوء للمفاوضات السرية :

أولا ليس عيبا أن نتفاوض بشكل سري، و لا يعتبر ذلك دليل على عدم الاعتراف بجو الحرية الذي يعرفه البلد، فقاعدة السرية جاءت في مقولة حكيمة مفادها، أن استعينوا على أموركم بالكتمان.

مرت جولات كثيرة من الحوار كان أبرزها اتفاق دكار بين المعارضة و مناصري محمد ولد عبد العزيز، و اتفاق الأغلبية و كتلة المعاهدة و كذلك محاولة التوافق بين فصيل المعارضة المسمى المنتدى و النظام في الفترة الأخيرة.

و هنا يمكن القول أن الحوار دون اشراف دولي كان غالبا مآله الفشل، و خاصة بين النظام و القوى المعارضة الراديكالية.

ها قد فشل الحوار الأخير بسبب تسريبه و تحمل في ذلك قطب المنتدى المسؤولية بشكل صريح، على لسان رئيسه الحالي، ليثبت أن حكمة الاستعانة على الأمور بالكتمان كانت واردة.

و هنا نحن أمام تحليل منطقي لما جرى :

من المعلوم بضرورة أن كل محاور سيقدم البنود لبقية أعضاء فصيله السياسي، و من هنا يمكن الظن أن التسريب جاء لمصلحة بعض تشكيلات كل فصيل على حدى :

إن تسريب الوثيقة أو بعض بنودها كما جاء على لسان رئيس حزب الاتحاد كان دليل قاطع على أن المسرب هو نفسه من سعى لفتح قناة التفاوض فمن خلال أول مؤسسة إعلامية نشرت البنود نعرف مدى التقارب بين هذه المؤسسة و ذلك الجناح من المنتدى الذي سرب البنود، و نعرفه أكثر حين نعلم أن الطرف الذي استطاع فتح قناة التفاوض بين النظام و المنتدى ليس سوى رئيسه السابق محمد جميل منصور.

و من جهة أخرى يمكن القول أن البنود تم عرضها على الحكومة و أجنحة الاغلبية، و لا يخفى على أن تسريب هذه البنود يظهر فشل الجناح الذي سعى إلى الحوار و يضعفه، و ذلك ما ظهر في مقالات بعض كتاب الأغلبية الكبار، الذين ضمَنوا في مقالاتهم انتقادات لاذعة للحوار و حتى لحملة الانتساب، لا بل إن انتقادهم وصل الرئيس نفسه.

خلاصة القول أن المشهد السياسي مرتبك و محاولات التوافق معرضة لكثير من العوامل السلبية و رغبة الأطراف في الحصول على توافق و لو على جزئية بسيطة يعتبر ضربا من الخيال، لأن انعدام الثقة داخل هذه الفصائل و التشكيلات معوق كبير للوفاق على المستوى الوطني.

و يبقى أن يصل مستوى الوعي إلى درجة يكون فيها المواطن قادر على معاقبة أطراف المشهد السياسي على اخفاقهم في إيجاد حلول للتوافق و الخروج من دوامة الشك و التخوين.

17. أبريل 2018 - 19:10

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا