حرب القاعدة وحسابات الربح والخسارة / أحمد أبو المعالي

altشكلت المواجهات الدامية الأخيرة بين الجيش الموريتاني وتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي أعنف احتكاك بين الطرفين..وتعتبر هذه أول مواجهة طاحنة بين الفريقين منذ أن تجاوز التنظيم إطار الجماعة السلفية للدعوة والقتال التي كانت في حرب ضروس مع الجزائر لأسباب معلومة..

وأصبح يتحرك في دائرة أوسع لاستهداف المصالح "الصليبية " في المنطقة علاوة على من يستضيفها ويحميها من" أذنابهم المرتدين" والأنظمة المتخاذلة ..كما تشي بذلك بيانات التنظيم.

لقد ظلت الصحراء الموريتانية المترامية الأطراف شمالا وشرقا مركز عبور ومرور لمقاتلي التنظيم ..وظل التراب الموريتاني خلوا من أي عملية سواء ضد المصالح الوطنية أوالأجنبية الموجودة على الأراضي الموريتانية وظلت الحركة السياحية تسير بشكل طبيعي ..

بيد أن تلك الهدنة المتفق عليها ضمنيا انهارت بعد أن بدأ نظام العقيد ولد الطائع يشن حربا مفتوحة على الإسلاميين بشتى مشاربهم وتوجهاتهم واكتظت سجونه بالعديد من السجناء ذوي الاتجاهات الفكرية الإسلامية المتناقضة أحيانا ..وغذت تلك الأحداث -التي كانت مسمارا قويا في نعش النظام -فضاء التطرف سيما مع تعرض له بعض المساجين من تعذيب وتنكيل يندى له الجبين.

حينها بدأ ت تلك التنظيمات المسلحة يلوح باعتبار موريتانيا أصبحت في دائرة الاستهداف وجزءا من الإطار الذي يدعم ويحمي المصالح "الصليبية" وينحاز لها على حساب هوية الأمة وكرامتها ويجاهر بمحاربة الدين والمتدينين سيما وأنه يتمتع بعلاقات على مستوى ديبلوماسي عال مع الكيان الصهيوني وكان ذلك بمثابة إعلان حرب مفتوحة بين الطرفين لارحمة فيها ولا شفقة فكانت "غزوة لمغيطي" حسب بيان التنظيم..وفعلا شكلت تلك الحادثة الأليمة التي بغتت الجيش الموريتاني وخلفت ضحايا وهزات نفسية ووطنية عنيفة فاصلة نوعية في العلاقة بين الطرفين ظلت تتباعد حتى كان ما كان.

وبدأت أجهزة الأمن الموريتانية تتبع خطى التنظيم وتفكك خلاياه النائمة في أماكن متفرقة من البلاد كما رد التنظيم بتكثيف التحرك لإثبات قدرته على التحدي والصمود وجلب الأنصار رغم المضايقات والاعتقالات التي طالت العديد من مناضليه وأنصاره بمن فيهم من يوصفون بالقادة في "جند الله المرابطون بعد أن أعلن قيادة التنظيم في الصحراء تولية الوجهة شطر موريتانيا واعتبارها هدفا من الأهداف ضمن أحدث استراتجياته .

وتمكن التنظيم من توجيه بعض الضربات المقلقة لموريتانيا تارة والموجعة تارة أخرى ما بين ضربات للجيش كما في الغلاوية ومعركة تفرغ زينة وتورين أو للأجانب كما تجسد في ضرب السفارة الصهيونية وقتل الرعايا الغربيين في ألاك ونواكشوط ..وفجأة طور التنظيم نظرته نحو العمليات العسكرية ضد موريتانيا ليقوم أحد أعضائه بتفجير نفسه أمام السفارة الفرنسة إنذارا بتطوير نوعية العمليات التي يتولى تنفيذها موريتانيون ينتمون لنفس الوطن ويحملون نفس الملامح مما يعقد من الأمر ويزيد من خطورته

انطلاقا مما مر نجد أن النظام الموريتاني هو من فتح النار على نفسه واشتعل وقودها في لمغيطي وغيره دون أن يتمكن الجيش لحظتها من تتبع المهاجمين والانتقام منهم أو القبض عليهم ويبدو أن التنظيم لم يكتف بذلك فتوالت الأحداث الدامية بالنسبة للجيش الموريتاني الذي يجد نفسه في فخ مباغت يكلفة العديد من الضحايا والخسائر رغم أن تلك الأحداث جرت كلها على الأراضي الموريتانية مما يعني قدرة التنظيم على اغتنام الفرص والتحرك في الأوقات المناسبة والأماكن المناسبة يساعده في ذلك وقود بشري موريتاني صرف وخبرة عالية في الكر والفر والمراوغة والمنازلة .

واليوم تبلغ تلك المواجهة ذروتها بين الجانين في معركة ما زال عجاجها يحول دون معرفة الحقيقة الكاملة وتفاصيل ماجرى دون تطفيف أو تحوير ..وحتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الخسارة أو النصر لهذا الطرف أو ذاك يمكن الحديث عن مجموعة من المعطيات المتعلقة بالموضوع:

- لا يمكن المقارنة بين هذه العمليات وبين ما جرى في الاحتكاكات السابقة بين التنظيم والجيش الموريتاني نظرا لكون تلك الصدامات كانت على الأراضي الموريتانية حتى ولو كانت كلها ردات فعل - وكان التنظيم هو مسعر الحرب وبالتالي فليس أمام الجيش سوى الدفاع عن الحمى والحوزة وصد المعتدين .وقد حظي حينها بتعاطف الجميع وتقدير المواقف.بينما قلب الجيش الطاولة هذه المرة وتجاوز الحدود ليخوض الحرب مع التنظيم في "عقر صحرائه" في الوقت الذي وجه فيه التنظيم رسالة قوية بعد عملية مشابهة اختلط فيها النفس الفرنسي بالنفس الموريتاني وتضاربت الأنباء الرسمية من الجانبين في حين كانت رسالة التنظيم في حامية "النعمة" واضحة الأسلوب والدلالة لمن ألقى السمع وهو شهيد.
- لكن للأسف يبدو أن تلك الرسالة لم تؤت أكلها وعمد الجيش ثانية لإقحام نفسه في حرب مفتوحة مع جماعة مفتوحة في فضاء مفتوح يشعلها فكر "منغلق" بعد أن أحجم أولو الدار وأصحاب الخريطة عن الدخول في تلك الحرب المفتوحة واكتفوا بالتوقيع على إذن بالسماح بإشعال النار دون أن يرموا فيها بثقاب .أو أن يقدموا أدنى مساعدة حتى ولو كانت قطرة ملحة من البنزين.وهم من خبروا خطورة التنظيم وعرفوا الكثير من أسراره ..وهو الموقف نفسه للجارة الشمالية التي آذاها التنظيم سنين طويلة أقنعتها بضرورة إعادة الحساب في تلك المواجهة بهذه الطريقة فاكتفت بتزويد وكالات الأنباء بأخبار غير سارة بالنسبة للجيش الموريتاني وربما شوش عليها الحديث عن دخول قوى أخرى خارجية على خط المواجهة مما سيسحب البساط من تحت تصدرها ويدخلها في نسق استراتيجي قد لا تشتهيه.كل ذلك رغم الكثير من الاتفاقيات الأمنية تتصدرها مكافحة الإرهاب لكن الواقع أبان الفارق بين ما يجري فوق الطاولات الرسمية وأمام العدسات اللاصقة والمتحركة وبين ما يجري في الميدان يوم "لفرقان" يوم التقى الجمعان
- لقد سر الكثير من المراقبين والمتتبعين حينما أعلن رئيس الجمهورية في حديثه المباشر للشعب - تعليقا على العملية الموريتانية خارج الأراضي الموريتاني- أن موريتانيا ليست في حرب مع القاعدة ولن تدخل حربا بالوكالة ضد أي أحد أ ومناصرة لأي طرف وإنما ستقوم بحماية حدودها ومصالحها ...علاوة على مبادرة العفو عن بعض السجناء السلفيين بمن فيهم بعض من كانوا في معسكرات التنظيم ومن يعتبرهم التنظيم أهل علم وفتوى بالنسبة له..وهو تفكير منطقي وواقعي يتفهم الواقع المزري الذي لحق ببعض الأنظمة التي كشرت عن أنيابها ضد القاعدة وانخدعت بفرقعات الحرب العالمية على الإرهاب فما كان منها إلا أن دخلت في دوامة مفتوحة من العنف والعنف المضاد لم ينقشع أوارها بعد.وهددت صميم أمنها الوطني.

إن تبرير الجيش لهذه العملية هو نفسه تبريره للعملية السابقة باعتبارهما ضربات استباقية ..كسرا لتدبيرهجوم محتمل ..لكن التصريحات الرسيمة الفرنسية عكرت صفو"استباقية الضربة الأولى"..وشرعت مشاركتها فيها بحثا عن "مواطنها" الذي راح ضحية ذلك التصرف غير المدروس كما أن تلك الضربة "الاستباقية" لم تحل دون ما جرى في "النعمة بعد ذلك بيسير!

ولا شك أن العمليات الأخيرة ضد التنظيم خارج الأراضي الموريتاني لا تتماشى وسياسة التوجه السليم الذي كشف عنه الرئيس في خطابه فضلا عن فتح الحوار مع السجناء السلفيين باعتبار أن التركيز على المقاربة الأمنية وحدها لن يزيد الطين إلا بلة ..ويطرح هذا التناقض في المواقف إشكالا حول خلفياته ..هل هو ارتباك في تلك المواقف وتأرجح تمليه اللحظة .؟.أم هو بحث عن تسجيل نقاط ضمن السيرة الذاتية لزيد أو عمرو من الناس؟؟؟

إن ما يقلق في هذا السياق هو أن تنفرد موريتانيا بمنازلة التنظيم وهي على ما هي عليه من البساطة والهشاشة الأمنية –رغم تقديرنا لجنودها ورجال أمنها- وشح الوسائل لكن الصراع مع تنظيم "فكري" ليس بالأمر البسيط سيما في تلك الفلوات الموحشة.. فلو أن التنظيم كان مجرد أشخاص يتحركون في تلك الصحراء محدودي العدد والعدة لهان الأمر ..لكن المقلق أن التنظيم مفتوح كحدودو موريتانيا وليس القلق من من يوجدون في تلك الصحراء بقدر هو من أتباعهم وأنصارهم المحتملين في كل وقت وكل مكان والذين قد بايعوا على غزوات لايدرى أين موقعها ومن ضحاياها ..فالجميع معرض لأن يكون ضحية ..فطبيعة تنظيم القاعدة أثبتت انه فوق السيطرة الأمنية الكاملة بعد أن أعلن العالم كله منطقة حرب وجميع البشر ضحايا محتملون ...ولو لا تلك الاعتبارات التي أبان عنها الصراع في بعض البلدان الإسلامية لما كان ثمة ما يحرج الجيران من ترك "موريتانيا " تتحمل وحدها مسؤولية الحرب على التنظيم في المنطقة ..

إن موقف مالي أبان عن سياسة مقنعة فلا هي تتعرض للتنظيم ولا هي تشارك في الحرب عليه حتى بالوقود رغم امتداد ه داخل أراضيها الشاسعة ..لكنها أدركت أنها لن تعبث بمصالحها وأمنها واستقرارها وفهمت الدرس من أول المشوار ..ولعل تجاهل إسبانيا للدعوات الأوربية والعالمية المنادية برفض دفع الفديات للتنظيم يتنزل في هذا السياق.فهي تؤمن أن حياة مواطنيهاها أغلى من اتخاذ قرارات متهورة هرولت تجاهها فرنسا فأذاق التنظيم مواطنها ما أحرج ساركوزي وربما قلل من حظوظه في الانتخابات القادمة.لإن سياسة فرنسا القاضية باستعمال مختلف الوسائل لتحرير الرهائن لا يمكن أن تجدي مع التنظيم وبالتأكيد لن تظل دماء الفرنسيين أسيرة "عنتريات" واهية لم تنحج ..وربما لن تنجح في المستقبل..وما يتخوف منه البعض أن تقوم فرنسا بجر موريتانيا لهذا الاتجاه الصارم تجاه التنظيم ..كما يبدو في الأفق لأول وهلة .وكما ورد في بيان القاعدة الأخير.والذي حمل تهديدا قد لا يتحمله المواطن المسكين الذي لا ناقة له في تلك الحرب ولا جمل خاصة بعد أن أدرك الموريتانيون ثأرهم من لمغيطي وتورين والغلاوية ..ولو افترضنا جدلا أن الجيش اتنصر في هذه المعركة انتصارا كاسحا فإن ذلك يحيلنا إلى القصة التاريخية التي تقول إن حيا مرت عليه جماعة قد استولت على أنعام لمجموعة قوية أخرى وهم يتباهون بذلك فردوا عليهم بأنهم يباركون لهم ذلك شرط أن تلد تلك الأنعام في أحيائهم مطلع العام القادم.

فكفى زجا بالجيش في هذه الحرب المفتوحة التي لن تخدم أي مصلحة من مصالح البلد بقدر ما تفتح النار من الجهات الأربع ...وحينها لن يكون هناك أي تنسيق أمني أو استيراتيجي ..وستختفت أنشودة الحرب على الإرهاب ..فكفى حسابا للخسارة ..وكفى حسابا للنصر..

فهل فهمنا الدرس؟

ختاما أزف خالص العزاء لأسر الجنود الذين قضوا في هذه المعارك وأسأل الله للجرجى والمصابين الشفاء العاجل.

22. سبتمبر 2010 - 15:45

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا