قراءة سوسيولوجية في تاريخ المقاومة الوطنية وعلاقاتها بأسماء الأماكن التي وقعت فيها المعارك

للتاريخ أبعاد متعددة يمكن تناوله من خلالها دون أن يؤثر ذالك على المعطي التارخي ذاته ولا حتى على مجريات الأحداث. إلا أنه من الصعب جدا أن يتجرد المؤرخ من قميصه الاجتماعي أو أن يتستر على رؤية المجتمع لذاته التي غالبا ما يفوح عطرها من بين ثنايا السطور. و نحن هنا من أجل إظهار هذا الجانب سنحاول قراءة تاريخ المقاومة من خلال "نظارات " اجتماعية تبحث عن رؤية المجتمع لنفسه ولتلك الإحداث، و ليست رؤية المؤرخ، متوخين في ذلك  كل ما  أمكن من الموضوعية.

وقبل الشروع في تلك القراءة لا بد من التذكير بأن اسم المكان الذي تقع فيه المعركة ليست له علاقة بها بالضرورة ، بمعنى أن يكون المكان قد أخذ اسم المعركة  بل بالعكس من ذلك ، فكثيرا ما تأخذ المعركة اسم المكان الذي وقعت فيه دون أن يكون هذا الأمر نتيجة لتفكير مسبق بل هو في الغالب عفوي. فالمعارك تقع أحيانا في أماكن لم يتوقعها أهلها وقد تفاجئهم و تباغتهم أحيانا كثيرة.

ومعالجتنا ستشمل ثلاث محطات هي :

المحطة الأولى تتعلق بالدوافع النفسية والذاتية التي تكمن وراء الانخراط   والاندفاع والاستماتة في محاربة العدو لدى "المقاومين" مما يدفع إلى التساؤل عن حقيقة هذا القتال : هل هو مقاومة ؟ أم جهاد في سبيل الله ؟ أم هما معا؟

المحطة الثانية : تهتم بنوعية العلاقة الاجتماعية التي تربط القائد بباقي أفراد المقاتلين ،حيث سنجيب على السؤال : من هم القادة وما هي علاقتهم بباقي أفراد المجتمع؟

المحطة الثالثة: تلقي الضوء على العلاقة الممكنة التي تربط بين اسم المكان والمعركة التي وقعت فيه.

المحطة الأولى  مجاهدون ام مقاومون أم هما معا؟

إن المتتبع لمجريات أهم المعارك التاريخية ليلاحظ أن الدافع الرئيسي إلى الاستشهاد كان هو الأقوى حيث استطاع "المجاهدون في جل المعارك أن يرفعوا شعار الجهاد في سبيل الله متمثلا في كلمة التكبير<< الله أكبر ...الله أكبر>>

أما دواعي الذود عن الوطن فإن كانت حاضرة فليست هي الأقوى وذالك راجع إلى عدة أسباب نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

غياب حدود  للبلد معلومة ومتفق عليها شرقا وشمالا وجنوبا.

غياب سلطة مركزية تصدر منها الأوامر والنواهي للجميع.

التشرذم الإقليمي وحضور نفوذ الأمراء  كل على مجاله ومراعيه .

تفشي السيبة في عقول العديد من السكان وعدم استقرارهم في المجال .

إن الاتفاق و حتى التنسيق أحيانا بين بعض الأمراء فيما بينهم ليعبر في الحقيقة عن شعور مشترك ووعي تام بالخطر الذي يشكله توغل المستعمر ، إلا أن هذا الشعور لا يمكن أن يكون أقوى من الوازع الديني الذي يشكل قطب الرحى لأي عملية قتالية حقيقية آنذاك ، فالرجل يمكنه أن يتنازل عن قطيع من الإبل أو عن بئر أو عن مرعى لكنه لا يمكنه أبدا أن يتنازل عن عقيدته ولا عن دينه فهو يموت من أجل الجنة والجنة فقط ، فهذا هو الذي يفسر سر الصمود بالرغم من الفرق الشاسع في العدد والعدة بين المجاهدين والمحتلين.

المقاومة الوطنية بمفهومها العام تستدعي من الناحية السوسيولوجية هبة وانتفاضة  شعبية و شبه شاملة ربما لا تكون لها صلة مباشرة بمفهوم الجهاد في سبيل الله إلا أن يكون المحتل كافرا ... فإن كان المحتل ليس بكافر فلا مكانة للحديث عن الجهاد في سبيل الله، بل يتعين هنا أن تكون المقاومة مقاومة ضد الاستعمار والاحتلال : والأمثلة كثيرة في تاريخ الشعوب : احتلال ألمانيا لفرنسا ، احتلال انجلترا للهند .. إلخ

أما بالنسبة للمجاهدين الموريتانيين فالأمر محسوم في البداية : فكل من شارك أو ساعد في إجلاء المحتلين عن هذا البلد فقد تبين أن الوازع الديني كان عنده هو الأقوى والدافع الأساسي لديه. فهم إذا مجاهدون بالدرجة الأولى قبل أن يكونوا محض مقاومين . و هنا تكمن أهمية مساءلة الأحداث عما كان يروج في خلجات هؤلاء الأبطال وكيف كانوا ينظرون إلى أنفسهم؟ كأنهم كانوا يرددون <<قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار - أي العدو->> بل يعتقدون أشد الاعتقاد أنهم يموتون ليحيوا وأن الكفرين يموتون ليبلوا، فلا شيء في ذالك الزمان يبرر قوة اندفاع المجاهدين  مع الفرق الشاسع بينهم وبين العدو في العدد والعدة سوي الوازع الديني.

وما الفرق بين موقف الخنساء وموقف خربش بنت اظلام حين أحضرت الدف عندما استشهد ولديها السالك واعل في معركة ايكنينة التيكويت وبدأت تقول "أرجو من الله أن يشفعا لي يوم القيامة" وما الفرق بين موفق الصحابي الجليل الذي ألقي تمرات كانت بيده ودخل في الجهاد حتى قتل و موقف اعل ولد الخديم في معركة ايكنينت التيكويت حين قال " لا أبيتن ليلتي هذه إلا في الجنة " فقاتل حتى قتل.وما مدلول قول وجاهة حين قال لأصحابه لما نصحوه بالانسحاب عن ساحة الحرب " لقد بعت نفسي ومالي في سبيل الله" ؟  إن هؤلاء قد أعلنوها جهادا في سبيل الله عن الأنفس والأموال والحيز الترابي وليس عن الوطن بمفهومه القومي . فهذا الوطن لم ترتسم بعد معالمه الحدودية الجغرافية الحالية وذلك أن المناطق الشرقية  من البلد لم تزل آنذاك مرتبطة بمالي، والمناطق الشمالية لم تزل مرتبطة بمراكش واسمارة ، ولم تزل المناطق الجنوبية مرتبطة بسنلوي... فنظرا إلى هذا المستوى فإن " المقاومة الوطنية" كانت في الحقيقة كما أسلفت جهادا في سبيل الله وليست مجرد ذود عن وطن بما في الكلمة من معنى  أي المجال المعروف اليوم بموريتانيا. فلو لم يكن الوازع الديني هو الذي حدا بالمجاهدين إلى القتال والذود عن العقيدة قبل كل شيء لاستطاع العدو أن يقوم بتنصير بعض الموريتانيين ويقدم نفسه على أنه في مهمة تبشيرية كما فعل ذالك في الكثير من الدول المجاورة وغير المجاورة.

 

 

المحطة الثانية : من هم الأبطال وما هي علاقتهم بالمجتمع؟

 

إن غالبية أبطال المجاهدين هم من أمراء أو من طبقة النبلاء وقادة الرأي و هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن صانعي التاريخ هم أيضا من طبقة النبلاء ؟ ولكن هل يمكن لقائد أن يكون قائدا حقيقيا إلا لجماعة تقبل قيادته لها ، وتشاطره الرأي وتذعن لأوامره؟ و بطريقة أخرى من هو الجندي المجهول في هذه المعارك؟ وهل يمكن لقائد أن يقاوم وحده بلا جنود و بلا أعوان من الطبقات الأخرى؟ الجواب طبعا هو: لا ..  لكن الأهم في الأمر هو أن القائد أيا كان لا بد أن يكون له صيت وله جاه  وسمعة وتاريخ يسمح له أن يكون قدوة يعتد به ويؤتمر بأوامره.

والحق أن القائد لم يكن وحده هو مصدر الرأي ، فبقية الأعوان كلهم كان له دور بارز قد تميز به اذ الحرب خداع وهي شأن الجميع وليست تاجا يحظي به القائد دون سواه سواء استشهد او لم يستشهد في تلك المعركة ، فالقوم قومه وهم الذين صنعوا منه بطلا فلماذا يتوارون ويزولون بزواله؟

إن علاقة البطل بالمجتمع علاقة قوية وهي الشيء الذي قلما يذكره المؤرخون... فلولا تعدد الأدوار في المجتمع لما استطاع قائد أن يحصل على معلومات عن عدوه مثلا ولما استطاع بوحده أن يقاوم أو يخطط أن يحصل على ذخيرة أو علي وسائل النقل... فلو أن المعارك التي حدثت قرأت بنظارات سوسيولوجية لبرز دور كل طائفة ولكان الفضل ينقسم بينهم ويرجع إليهم جميعا ولم يعد للقائد وحده ليخلد به في الذاكرة الاجتماعية دون العديد من الجنود المجهولين الذين لولا تفانيهم واستعدادهم للموت في سبيل الله لاختل الأمر ولكان على غير ما هو عليه الآن.

المحطة الثالثة: العلاقة الممكنة بين اسم المكان والمعركة

لقد قلنا في المقدمة أن تلك العلاقة التي تربط بين اسم المكان والمعركة التي وقعت فيه ليست ضرورية  ولا طردية بمعنى أنه يمكن أن يكون  اسم المكان سابق على المعركة ثم تأخذ المعركة هذا الاسم دون أن تكون المعركة هي التي أعطت اسمها للمكان ، وقد بينا أن هذا الأمر هو الذي وقع في غالب الأحيان، لأن المعارك تحدث في أكثر حالاتها فجأة ودن سابق إنذار.

فمعركة تجكجة الحاسمة و التي قتل فيها  القائد الفرنسي كبلاني 1905 أخذت اسمها من المكان الذي وقعت فيه فلفظ تجكجة لا علاقة له إطلاقا بالحرب ولا بمقتل كبلاني ولا بما جرى من الأحداث آنذاك ، فالحق هو أن الأحداث هي التي ارتبطت بالمكان وليس العكس. فتجكجة كانت قائمة قبل الأحداث و بقيت بعدها وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.وهذا الأمر جار على العديد من الأماكن التي وقعت فيها معارك تاريخية و حاسمة مثل النيملان، وايكنينة التيكويت، وأم التونسي، ووديان الخروب، واشريريك و الاروى بوكرن إلخ...

والملاحظة الأخيرة تتعلق بالمعاني اللغوية : فالحقيقة هي أن أسماء الأماكن تواضع عليها أهل البلدة بلغتهم المحلية : الصنهاجية والحسانية ، ولها معاني تعبر عنها في مخيلة المجتمع الذي أنتجها، فإذا وقعت فيها معركة  فإنها غالبا ما تأخذ اسمها وتكون بذلك خالدة وإلا فإن المكان باق يلعب دورا جغرافيا ثابتا لأنه يكرس إشارة و معلمة جيواستراتيجية  يتعرف أهل البلدة من خلالها على مواقع الماء والمراعي والسبل.

 

بقلم : د. بلال ولد حمزة

26. يوليو 2018 - 20:43

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا