حتمية التطوُر وتطوير الحتمية في المجتمع السياسي الموريتاني / باب ولد سيد أحمد لعلي

لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يعتبر أي باحث في المجال الاجتماعي أن بن خلدون كان يسعى إلى إقامة فكر اجتماعي تجريبي بعيدا عن الطبيعة التجريدية للعلوم النظرية بأكملها التي تتحكم فيها الفلسفة ، بل أقل ما يمكن أن يقال عنه دون أن نندعي تفويضا مطلقا لوصف معارفه ، وكانطباع بسيط أنه فكرٌ اجتماعي خالص استطاع أن يكشف صاحبه بطريقة أكثر من رائعة القواعد العامة

 

 التي تحكم التاريخ السياسي والاجتماعي ككل والعربي بشكل خاص.
طبعا مقاربة بن خلدون لا يستطيع أي باحث في المجالات المعرفية الإنسانية أن يهملها مهما كان الثمن ، وقد عبر عن ذلك المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري في أطروحة التي خصصها لمتغير العصبية والملك عند بن خلدون "لو أراد الشيطان ضالته في مقدمة بن خلدون لوجدها" .
هذا الادعاء لا يمكن الأخذ به مطلقا إذا ما نظرنا إلى التاريخ الغربي القريب وخصوصا مع انبثاق شعلة الحضارة الغربية وميلاد الفلاسفة والمفكرين الغربيين الذين عاصروا عهد الأنوار وتبعات الثورة الفرنسية التي أدت إلى إلغاء البنيات الاجتماعية القديمة والبحث في ظل تلك الفوضى الخلاقة عن بدائل يمكن أن تحوي طموحات من حمل المشعل وتخبئ غضب الجميع واشمئزازهم من الجميع ، وهو ما يمكن القول أنه ظهر بجلية في أفكار "أوكست كونت" الوضعية التي فسرت المجتمع تبعا لذات التاريخ الخاص وذات المجتمع الخاص كذلك انطلاقا من عاملين أحدهما متغير والآخر ثابت "استاتيك والديناميك" دون الغوص في تفاصيل ذلك .
ولا يمكن أن ننسى ونحن نتذكر ذلك التاريخ الاجتماعي ومن ابدعوا فيه أيمل دوركاهيم الذي أبدع في هذا المجال ووضع المبادئ التطبيقية التي تسمح بدارسة ما يعرف عنده بالظاهرة الاجتماعية على غرار العلوم التطبيقية ، وميز كذلك بين نوعيين من المجتمعات "الآلية والعضوية" أي المجتمعات البدائية التي تتميز بكون العلاقات فيها مركبة تركيبا آليا ، والمجتمعات العضوية الحضرية التي يسود فيها ما يعرف بتقسيم العمل .
هناك عامل واحد يربط بين المقاربتيين "العربية والغربية" وهو أن كلاهما أنتجت في ظرف خاص ، فابن خلدون وضع مقاربته في عصر نكوص شعلة الحضارة العربية و انفلاتها وإشاعة الفتن والاقتتال بين مختلف الدويلات الإسلامية في ذلك الزمن ، وهو أمر ساعده على استخلاص ما استخلص من كل ذلك ، أما كونت ودوركاهيم فقد عايشوا عصرا من الانحلال الأخلاقي في الغرب وظهور الآلية وطغيان العقل المادي على الاعتبارات الاجتماعية ، وهو الأمر الذي دفع حسب تعبير بير بورديو في كتابه الرمز والسلطة دوركاهيم إلى البحث بنيات أخرى غير البنيات القبلية أو التقليدية من أجل حل مشاكل المجتمع المنهار في ذلك الوقت ، وهو ما تم فعلا عبر سلسلة من التطور المعرفي الصامت الذي أبدع فيها كل من جانبه ومن زاويته.
طبعا لم يدعونا إلى هذا التقديم المبسط غير الوضع الاجتماعي والسياسي الموريتاني والرغبة في التأمل فيه من زاوية الموضوعية لكي نستطيع أن نفهم شيئا من مختلف الآليات التي تتفاعل رفضا للقديم بنية أو تجسيدا له وتثبيتا، ولا يمكن لأحد إهمال أي من المقاربات في وضع اجتماعي معقد تتفاعل فيه عوامل عدة منها التقليدي النابع من الثقافية والإدراك الجمعوي ، ومنها ما هو حداثي مركب بفعل السيطرة السياسية والعسكرية لقوى مخالفة تماما لثقافية المجتمع ، أو على حد تعبير فرانسيس دي شاسه ، نتيجة لالتقاء عاملين مختلفين في بيئة اجتماعية جد متخلفة ، أي العلاقة التي تربط الإمبريالية الغربية بالمجال الاجتماعي البدائي أو البدوي الموريتاني .
فلا يمكن أن ينكر أحد يعايش واقعا الظواهر الاجتماعية في المجتمع الموريتاني بدائية العقل وإن أصبحنا في شكل متطور قياسا بالواقع الاجتماعي ما قبل الدولة الموريتانية ، نفس الرجل الذي كان يركبُ جملا ويبحثُ في فضاء مفتوح عن غايته قبل أن يصل منهكا لخيمته زوالا هو من يركبُ الآن السيارة العصرية ويحاول أن يؤدب بتلك العقلية التي كان يسير بها في أرض خلاء الزحمة والكثرة في الحضر هنا .
من هذا المنطلق لا يمكن أن نفصل السلطة السياسية عن الطبيعة الاجتماعية أو البيئة الاجتماعية القائمة نتيجة لحتمية التفاعلات بين المجالين ، فلا يعمل السياسي آليا بلغة دوركاهيم إلا بمنطق العرف والعقلية الاجتماعية القائمة ، ولا يمكن تفسير الوضع السياسي بشكل عام إلا بالاعتماد على تفسير طبيعة الخلفية الاجتماعية التي أنتجت ذلك ، والحال هذا يجدر بنا أن نتساءل عن أسباب انتشار الظاهرة الحزبية بشكل مضطرب في مجتمع لا يبلغ تعداده أربع ملايين؟.
98 حزبا مشاركة في الانتخابات التشريعية والبلدية الآن من أصل 105 حزبا مرخصة قدمت في وثيقة قبل انطلاق الحملة بشهر من طرف وزارة الداخلية الموريتانية!!
هذا مع حضور قوي للبنيات التقليدية (القبيلة) في المشهد السياسي ، وهذا وضع يسمح لنا باختصار وانسجاما مع بدايات هذه الأسطر أن نقرأ المشهد على شكلين ، انطلاقا من المقاربتين خصوصا إذا ما علمنا أن الفضاء الغربي أصبح واقعا معاشا وفرض علينا محاكاته لتحكمه في العالم اليوم ولمركزية الحضارة عنده .
الأولى أن مقاربة بن خلدون وقاعدته حاضرة بقوة في جانب حضور البنيات القلبية ومزاحمتها المشهد مع الظاهرة الحزبية إضافة إلى بدائية المجتمع وبدويته .
أما المقاربة الثانية تتشكل في مشهد مضرب بفعل تواجدها إلى جانب تلك البنيات القبيلة دون إقصاء كما حدث في الغرب عندما أفرزت كبديل للبنيات القبلية وكحاضنة اجتماعية فوق كل الاعتبارات القديمة يتعزز الانتماء إليها ويتقوى بفعل المواطنة والإيمان بمبادئها الأساسية دون الاعتبارات الجينالوجية ، وهي بدورها حاضرة في جزء منها في شروط الانتماء للأحزاب فينا وإن كان الكم الكبير الذي أفرزه المجتمع ينم عن طبيعة بدوية خالصة فكما أن لكل قبيلة بئر ومرعى خاص أصبح لكل عشيرة حزب ومنظمة خاصة من منظمات المجتمع المدني التي اقتربت من عتبة العشرة آلاف منظمة غير حكومية مرخصة في موريتانيا .
يبقى الإشكال المطروح الوحيد هو إلى أين نتجه ما دمنا نسعى إلى تشكيل وعي وطني جامع ودولة للجميع دون تميز يسود فيها النظام؟ وطبعا الجواب متروك لمن اطلع على هذا الأحرف بعين استطاع من خلالها فهم ما تصبُ فيه!

28. أغسطس 2018 - 5:12

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا