نظرية المقاصد في تقنين الفتوى !/ المهدي بن أحمد طالب

 المهدي بن أحمد طالبلا يخفى على دارس للشريعة الإسلامية الأهمية التي أولاها الفقهاء في تقنين فتاويهم ومدى مسايرتها للواقع الزماني والمكاني الذي يعيشونه في ظل الانعكاسات السياسية والاجتماعية المتجددة.ومرفق الفتوى وضبطه لَمن الأهمية بمكان ، إذ به يحصل للمجتمع اجتماع  الكلمة وفض النزاع الفقهي وتوحيد الصفّ الإسلامي في ظل هجمات المستشرقين والعِلمانيين على أمتنا 

المسلمة ، واتهاماتهم لها بأنها أمة الخلاف والفُرقة .
وبالرجوع إلى واقع الفتوى في عصر النبي صلى الله عليه وسلم نجد أنها كانت منضبطة ومحصورة في أشخاص معينين شهد المجتمع لهم بالعدالة والفضل والنبوغ العلمي .

كان الناس يستفتون النبي عليه الصلاة  السلام عن ما يشكل عليهم من أمر دينهم ويكل إليهم أمور دنياهم ،  وقد ولى معاذ بن جبل رضي الله عنه على اليمن وبعثه مرشدا ومعلما ولم يتركه هملا فقد أعطاه الخطوط العريضة والمبادئ الدستورية للفتوى ، كما أنه بعث عليا رضي الله عنه إلى البحرين مرشدا ومعلما ، بل إنه كان يؤمر أحدا من أصحاب الوفود بأن يتولى شأن التعليم والفتيا فهذا مالك بن الحويرث رضي الله عنه قدم إلى النبي عليه الصلاة السلام ومعه رفقة من شباب قومه ليتعلموا هذا الدين وينقلوه إلى أقوامهم ومصداق هذا قوله تعالى " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون " .

و قد اشتهر بالفتوى من الصحابة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ  والعبادلة الأربعة وأُبَي بن كعب وزيد وعائشة وأسماء وحفصة ...ألخ ولم يبلغ عددهم ثمانية عشر رضي الله عنهم .

وفي عصر التابعين اشتهر بالفتوى الفقهاء السبعة وعلى أيديهم تخرج الأئمة الأربعة وخاصة أبو حنيفة ومالك رضي الله عنهم .

وفي عصر الخلافة الإسلامية  من بني أمية إلى عصر الدولة العثمانية سواء في المشرق أو في المغرب اشتهر بالفتوى القضاة والعلماء المبرزون في الفقه والحديث واقتصر الناس عليهم .

وقد بدأ التقنين الفعلي لمرفق الفتوى في عهد العثمانيين وما بذله الخليفة عبد الحميد الثاني من إنشاء مركز للفتوى يعتمد على فقهاء الحنفية ، وخير مثال على ذالك هو مجلة الأحكام العدلية التي قامت على شكل دستور للدولة الإسلامية يلزم القضاة والمفتين بالرجوع إليها .

وبعد هذه الفكرة قامت المُجمّعات الفقهية التابعة لرابطة العالم الإسلامي لينبثق عنها المجمع الفقهي الأوربي وهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية و الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين  ، ومجلس الإفتاء التابع للأزهر في مصر ومركز التجديد والترشيد الفكري في ابريطانيا التابع للعلامة عبد الله بن بيه   .

بهذه المجمعات الفقهية قل النزاع وقلت الفتاوى الشاذة وبفعلها تحقق نوع من الاجتهاد الجماعي وشبه إجماع سكوتي في مختلف الدول الإسلامية .

ومن المعلوم عند المقاصديين أن حفظ الدين من الضروريات الخمس التي جاءت الشرائع السماوية بحفظها ، ولا يتأتى هذا الحفظ إلا من جهتين جهة الإيجاد وجهة العدم أمّا جهة الإيجاد  فقد كمُل هذا الدين وانتهى بموت النبي عليه الصلاة  السلام ، أمّا من جهة العدم فالأمر مستمر حيث وأنّى وُجد مسلم على ظهر البسيطة ، و لا يخفى على أحد أن الكفار ما فتئوا يحاربون الإسلام بصور مختلفة ومتنوعة مستخدمين بني جلدتنا الذين ينطقون بألسنتنا ، مرة بحرية الصحافة ومرة بالتبجح بالديمقراطية الصهيونية ومرات ومرات بالحركات التنصيرية التي تستغل فقر المجتمعات وتتحين للكوارث والأوبئة وخير مثال منظمة الرؤية العالمية (world vision)  كما أن البعض من المنتسبين إلى العلوم الشرعية الغير متمكّنين يحاول بين الفينة والأخرى إصدار مقالات على شكل فتاوى معلبة لتخدم أغراض سياسية ليهدموا عُرى هذا الدين عُروة عُروة .

إن من المقاصد الأصلية التي جاءت الشريعة بحفظها ودعت إلى المساهمة في شأنها جمع كلمة المسلمين والسعي وراء كل ما يحقق ذالك الهدف ، كما أنها شددت  العقوبة على من يسعى إلى شق صفوفهم  وبث الفرقة فيهم ، وما شُرع حد الزنادقة والمرتدين والمستهزئين بالدين إلا لذلك .

ومن المقاصد التابعة ــ الخادمة ــ مقصد ضبط الفتوى وتقنين القضاء ، إذ بهم يخضع الجميع للسلطات العامة التي تنظم شؤون حياة الناس العامة منها والخاصة ، بل إنها من المصالح المرسلة التي سكت الشارع عنها ليسهل على الناس ضبط شؤون حياتهم في ظل تباعد أقطارهم واختلاف أزمنتهم وأمكنتهم .

وأكثر القلاقل في أمتنا الإسلامية سببه الرئيسي في نظري هو عدم تنظيم مرفق الفتوى وترك الحابل على الغارب كل يفتي من جعبته بما يوفق نحلته وفكره ، هذا يفتي بتكفير المجتمعات وتحليل دمائهم ، وهذا يفتي بجواز أشياء تخالف إجماع المسلمين وهلّم جرا .

إن سد الذرائع الموصلة إلى الحرام لمن الأهمية بمكان وخاصة في المذهب المالكي وسد الباب أمام من يثير الفتن وزعزعة الأمن العام لمن صميم باب سد الذرائع ، ومن المعلوم كذلك عند الأصوليين أن ما لا يتم ترك الحرام إلا بتركه فتركه واجب وكل ذريعة موصلة إلى الحرام اعتبر الشارع سدها من مقاصده العامة وضرورياته الخاصة .

أمّا بخصوص موريتانيا فإن مرفق الفتوى من جهة التقنين ظل شبه معدوم ، ذالك أن طبيعة المجتمع الصحراوي ـ بلاد السيبة ـ انعكست على أنماط الحياة الاجتماعية ، وظلت الفتوى مقرونة ببعض العلماء المهتمين بالشأن العام عبر مُراسلات لحل بعض النوازل كنوازل الشيخ سيد عبدُ الله ولد حاج إبراهيم العلوي وغيره من العلماء الذين أفتوا في بعض القضايا ، وقد حاول البعض منهم أن يرسم بعض النقاط المقننة لحياة بعض المجتمعات كالشيخ محمد المامي في كتابه " البادية " .

وبعد قيام الدولة المركزية أنشأت بعض المراكز المهتمة بشيء من هذا القبيل كالمجلس الإسلامي الأعلى ورابطة العلماء الموريتانيين ، إلا أن هذه المراكز ظلت حبرا على ورق لا تهتم غالبا بشأن الفتوى .

أخيرا أصدرت الحكومة الموريتانية مرسوما يقضي بإنشاء مرفق للفتيا وتقنينا له وهذه خُطوة مباركة تشي بالاعتناء بشأن الدين وما يتعلق به من أمور .

إنني غالبا ما كنت أنادي في بعض كتاباتي بإنشاء هذا المرفق والإشراف عليه من قبل جهة علمية متسمة بالعدالة والنظافة مما يشوب هذا المرفق من نزعات سياسية دخيلة تعكّر صفو نفوس البعض .
إن من المحزن أن تهتم الدول الغربية الغير مسلمة بتنظيم شؤون مسلميها ويبقى من يتشدق بالإسلام في دساتيره مهملا لمرفق يعد من أهم ما يقضي على حل كثير من الأزمات .

28. مايو 2012 - 0:00

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا