ظاهرة الرق عند بديع الزمان الشنقيطي/ المهدي بن أحمد طالب

 المهدي بن أحمد طالببعيدا عن الخلافات السياسية والنعرات القومية يُطل علينا : نجم الأمة والسياسي المحنّك والكاتب النحرير والمحلل السياسي والفيلسوف الوجودي والمفكر الإسلامي ومفسر الأحلام وقاضي تكساس ومُفتي قطر ومحرر نشرات الجزيرة

بديع الزمان ، الشنقيطي مولدا ، القطري دارا ، التُرابي مذهبا ، القرضاوي فكرا ، محمد بن المختار  نورٌ على علم .
إنني كما أنافح اليساريين في الدفاع عن الددو " الددو وألسنة اللامزين حدادا " أنافح كذالك عن أعلام الإسلام وتطاول المفكرين السياسيين عليهم .
بعد غياب كثير عن الساحة الإعلامية ظهر بديع الزمان سلّمه الله يُبرر عنجهية المدعو بيرام بتحليلات شيطانية وآراء شاذة بعيدة عن منطق الفقه والعقل والواقع .
سيدي الكريم قلتم في مقال لكم تحت عنوان " لا تحرقوا الكُتب ..لكن اقرأوها بعيون مفتـــوحة   "
إن فِقهنا  الحنيف وصل إلى مرحلة من القهر الاجتماعي إبان فترة الجمود الفقهي وأن الفقهاء  " التفوا " على مسألة المكاتبة وأنهم رفضوا المساواة بين الحر والعبد في حق الحياة ، وأن الإسلام لم يحرر الرقيق قانونا عمليا ، ثُم قلت إن من المصائب الفقهية في تاريخ الرق في المجتمعات الإسلامية هي " التفاف " الفقهاء على نظام المكاتبة ثانيا ، وأن الفقهاء أهدروا عُمومات النصوص الشرعية ، وأن أغرب ما في الأمر هو تواطأ الفقهاء في التميز بين العبد والحر في القتل ، ثُم خلُص مقالكم سيدي إلى تجاوز مرحلة الفقه الجامد الذي يقود الأمة ثقافيا واجتماعيا.
ما أشبه مقالكم سيدي المحترم ببيان بيرام " متنا ومعنا " فبيرام قال إن كتب الفقهاء كتب للنخاسة وأنه قد تجاوز مرحلة الفقه الجامد بآرائه الفقهية وها أنت اليوم تدعوا إلى نفس الفكرة بطريقة ديناميكية تظهر الباطل حقا والظالم بريئا بمنطق سفسطائي.
سيدي الكريم قبل نقاش هذه الفكرة لا بدلنا أن نحرر محل النزاع الفقهي في إشكالية الرق قبل معالجتها أخلاقيا ، فالفقهاء عملُهم هو النظر في حال المكلف وكيفية تعلُق الأحكام به بعيدا عن تكييفها أصوليا ومقاصديا .
إن الإسلام دين كفل حريات الجميع وضمن حقوق غير المسلمين فضلا عن المسلمين ، كما أن الإسلام لم يوجد ظاهرة الرق بل وجدها ظاهرة منتشرة في الأمم السابقة كفارس والروم وحاول تهذيبها أخلاقيا كما هذب الظواهر السلبية الأخرى كالزنا وشرب الخمر والقتل بغير حق وهذا ما جسده  الفقهاء في مدوناتهم الفقهية من عهد التدوين إلى يومنا هذا وقد بسطتُ القول في مقال " إشكالية العبيد وجدلية الرق عبر العصور "  .
سيدي الكريم : لندع النقاش للفقهاء والأصوليين وطرائقهم في ترتيب الأدلة.
قلتم إن الفقهاء التفوا على مسألة المكاتبة لتحرير الرقيق !
إن المكاتبة في قوله تعالى " فكاتبوهم " صرف الأمر فيها عن الوجوب إلى الندب بدليل الاستصحاب وهو أن العبد مُلك لسيده أصلا وهو مخير بين المكاتبة وبين إبقائه رقيقا إلى حيث شاء ، ثُم إن المكاتبة قرنت بالخيرية إن علمت فيهم ـ المال ،الحرفة ـ وهذا صارف ثاني عن الوجوب ، وقد كره بن عمر رضي الله  مكاتبة العبد إذا لم تكن له حرفة فقال " يطعمني من أوساخ الناس " نقل هذا الكلام السيوطي الشافعي  في تفسيره الدر المنثور / ج11/ص 47 .
وذكر الثعلبي النيسابوري الحنفي : أن المكاتبة أمر ندب واستحباب ولا يلزم السيد مكاتبة عبده سواء بذل قيمته أو أكثر منها ونسب هذا القول إلى الشعبي والحسن البصري وأبو حنيفة ومالك والشافعي وسائر الفقهاء تفسيره الكشف والبيان / ج 7/ص 96.
أما القرطبي المالكي : فقد قال في تفسيره أن ابن جرير وجماعة أهل الظاهر على وجوب المكاتبة تمسكا بظاهر الأمر " فكاتبوهم " لكنه ناقش هذا القول بإجماع العلماء على أن العبد لو قال لسيده زوجني أو كاتبني لم يلزم السيد شيء من ذالك ، كما ناقش القول بالقرينة الصارفة عن الوجوب وهي عِلمُ السيد الخيرية من عبده، أحكام القرآن / ج 12/ ص 245  .
سيدي الكريم كان عليك أن تناقش القضايا السياسية بعيدا عن نقاش قضايا وكّل الله لها علماء جهابذة لا يوالون من أجل أطماع سياسية  معاذ الله  ، وليس همهم القضايا الفكرية التي تشغل بها الساحة سائر الأزمنة وفي كامل الأمكنة إلا ابتغاء وجه الله ليتركوا المرجفين وشأنهم واليتبروا ما علوا تتبيرا .
أما قولك سيدي الكريم أن نظام المكاتبة ألزمته ظروف معينة وهي قلة ذات اليد في تلك الفترة وأنها في يومنا هذا غير موجودة لوجود السلطة العامة ، ألا يُفهم منه ضمنيا وجود ظاهرة تنكرها وتدافع عنها .
إن الأحكام الشرعية ثابتة ولا تتغير وعدم وجود ظاهرة الرق لا تعنى بالضرورة نفي أحكامها ونكرانها وكأنها لم توجد .
أما قولك أن عمر رضي الله عنه ألزم أنس بن مالك مكاتبة عبده سيرين فهو إنما فعل ذالك سياسة وهذا كثير في عهده فهيهات لك تتبع ذلك وفيه قدوة للمقتدين  ، بل إن قانون الفاروق ونظريته المقاصدية ساحة خصبة فهو لم يقطع يد السارق عام المجاعة وهذا لا يعني عدم قطع يد السارق مطلقا  .
أمّا قولك أن الفقهاء ميعوا الأمر وقالوا بأنه ليس للوجوب أمر غاية في السقوط ومن له أبسط علم بأصول الفقه يرى بأن الأمر له قرائن تصرفه من الوجوب إلى الندب ولعلك تُراجعها في كتب أصول الفقه لا تلك التي أخذت عنها التشدد في اليمن " الحوثيين" أيام مقامكم بها ، ولا تلك التي بحثت في " الحروب الصليبية بآمريكا"
أما أخذك بمذهب ابن حزم وآرائه الشاذة التي خالف في أكثرها إجماع المسلمين كالقياس ونحوه ، إنما هو مراوغة وبحث عن مسألة لا قائل بها من أصحاب
المذاهب الأربعة اللذين يُجلون كلهم الصحابة الكرام وطهروا ألسنتهم من أعراضهم كما تطهرت سيوفهم من دمائهم فالتخالف أنت الصحابة سياسيا كما شئت وأني شئت ليقال وقد قيل ،وليعلم وقد علم "الخلافات السياسية بين الصحابة".
أما قولك سيدي المحترم أن المصيبة الفقهية هي رفض الفقهاء للمساواة بين العبد والحر في حق الحياة واستدلالك بقوله تعالى " النفس بالنفس " يفهم منه تشويش في الذهن ومدارك النظر الأصولي  واتهام جلي للفقهاء بالعنصرية ؟
فالعموم الوارد في الآية مخصوص بقوله عليه السلام " لا يقتل حر بعبد " انظر التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي ج 1 / ص 87
وهي آية في أحكام الجنايات والكفارات ومن المعلوم أن الكفارات يقاس بعضها على بعض سيدي المحترم وهي بهذا  مخصوصة بعدة أوجه فالله تعالى قال " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منها مائة جلدة " وقد خصص هذا بقوله في حق الإيماء " فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب " وقد أجمع العلماء على تنصيف الحدود بين الأحرار والعبيد  كما أجمعوا على قياس العبد على الأمة ولم يُخالف في هذا أحد من المسلمين إلا بديع الزمان الشنقيطي في دُبر الزمان إنه العجب  .
سيدي الكريم إن كانت أقلام الفقهاء قد تلاعبت بالفقه كما تقول فقد تلاعبت أنت بنصوص الوحي تضرب بعضها ببعض لا لتجمع بينها ولا لترجح لحاجة ما في نفس "إيرا".
أمّا قولك إن الفقهاء أهملوا نصوص الشريعة وعموماتها دليل واضح على هدرك لخاصّها وعامّها مطلقها ومقيدها فضلا عن فحواها وإشارتها ، فتسويتك بين العبد والحر في القصاص جهل مُطبق بمفهوم قوله تعالى " الحر بالحر والعبد بالعبد " .
وزعمك سيدي الكريم بأن الفقهاء سووا بين قوله تعالى " الأنثى بالأنثى " يلحق بسابقه فهم مجمعون على أن حد الحرة في الزنى مائة جلدة وحد الأمة خمسين جلدة ولم يخالف في هذا إلا بديع الزمان في القرن الرابع عشر الهجري .
وليس ذلك بغريب فأنت أفقه من علماء المالكية اللذين تسبهم واللذين أقلهم حفظا يقول عن نفسه إنه أتفه ما يحفظ كتاب "الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني " وبديع الزماننا يطالع يوميا صحيفة الشرق الأوسط  وموقع السراج والأخبار.
وأمّا خدشك دائما بحق الحياة يعنى هدم الإسلام بعلمانية منشودة كيف والإسلام وهو القائل " ولكم في القصاص حياة " ، وفقهاء المالكية " ابن القاسم ، المواق ، الخرشي "  لم يقولوا بهذا وحدهم بل سائر المسلمين مستندين إلى إجماع مستنده تنصيف حد الزنى وقد انعقد الإجماع قبلك يا شنقيطي وللأسف لم تظهر في تلك الحقبة حتى تنقضه بآرائك الشاذة التي أتيت بها من المؤسسة القطرية للثقافة التي تلزمك مالا قبل لك به .
أما اتهامك لابن عبد البر بأنه تجاوز المسألة بجرة قلم ـ دليل على تطاولك على فحول الإسلام وحراس الشريعة ـ في قوله بأن لا كفارة في قتل عبد ، فقد صدق ابن عبد البر وأخطأت وقوله هو عين الصواب فالفقهاء مجمعون على أن العبد مال يباع ويشترى وإنما تدفع قيمته إذا كان قاتله حرا وهذا هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز بداية المجتهد لابن رشد / ج 4 / ص 1683  .
أمّا إغرابك من تواطئ الفقهاء على عدم التسوية بين نفسيين ارتكبتا جريرتين  يرجع لعله إلى عدم الرضى بما شرعه الله ورسوله وعليك أن تُراجع تفسير قوله تعالى " ...ولا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " .
أما زعمك  "إن استثناء العبد المتهم بالقتل من كل ذالك ـ المرافعات القضائيةـ سوى إهدار إنسانيته " ، فجوابك هو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه " والله لو تمالأ أهل صنعاء على قتل رجل واحد لقتلتهم به " .
إن ابن القاسم تخرج من مدرسة الإمام مالك بالدينة المنورة وقد أقسم بالله أنه لازمه عشرين سنة لم يغب عنه فيها مالك رضي الله عنه ، أما بديع الزمان فهو متخرج من جامعات الولايات المتحدة الآمريكية والفرق بينهما هو  الفرق بين المنطقتين .
أمّا ابن عبد البر فهيهات هيهات أن تصل إلى مرتبته العلمية فهو حافظ المغرب قاطبة ، قدّم للأمة ـ الإستيعاب ، الاستذكار ، التمهيد ، الكافي في فقه أهل المدينة ـ وفضله على الأمة لا ينكره إلا متطفل على المسائل الفقهية ، إنه اللؤم والعقوق في أبهى حُلله .
أمّا دعوتك إلى تجاوز مرحلة الفقه الجامد فقد دعا إليها "بيرام "في محرقته " والترابي في اجتهاداته " تشابهت قلوبهم ".
إن المذهب المالكي لا غبار عليه حكم هذه المنطقة حوالي 12 قرنا من الزمن سطرت مدوناته في قرطبة ولشبونة وفاس والزيتونة وشنقيط وولاته ، ولُخصت في مختصر خليل بمصر، تعاقبت عليه الأجيال كابرا عن كابر.  
إن الإسلام السمح في تعاليمه وأحكامه المبنية على قواعد ثابتة وأصول مستقرة لا يمكننا تجاوزها ، كما أنه يحرم على من لا يعلم التكلم فيما لا يعلم ، ويحرم كذالك سكوت من يعلم على تلاعب من لا يعلم ، وإنه من الزيغ والفتنة في دين عدم حمل  مطلق الوحي على مقيده وعامه على خاصه ، كما أن التطاول على علماء الأمة  ووصفهم بأنهم ميعوا الشريعة والتفوا على أحكامها نوع من إحراق الكتب لإرضاء حركة كشف الله أمرها وكفى المؤمنين شرها .
إنني أقولها وأكررها دائما على الدولة أن تقنن مرافق الفتوى وأن لا تترك كل ناعق يَهرف بما لا يعرف يتلاعب بنصوص الشرع عبر تحليلات تخالف إجماع المسلمين لتحقيق مآرب سياسية ، وإن الدولة  والمجتمع والعالم لمحقون أجمعهم في إنكار حرق حركة  " إيرا"  للكتب .
وأخيرا تبقى وجهة نظر بديع الزمان الشنقيطي  وجهة نظر خاطئة غير ملزمة لأي أحد ، أما  ببّغاءات الفيس بوك الذين يصفقون لكل ناعق عليهم أن يعلموا أن هذا لا يدخل في الحملة على الفرقة الناجية ـ تواصل ـ وإنما هي استشكالات فقهية تتعلق بديننا الحنيف يحرم على من يعلم حكمها السكوت عليـــــها .  

10. مايو 2012 - 0:00

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا