حيل الفقهاء..وموسم الرواج!! / الحسن مولاي علي

كما يتسلل المنافقون بين المؤمنين، تسللت حيل الفقهاء وفتاوى الطلب، إلى مراكز القرار والقدوة في الأمة، في وقت مبكر من تاريخها، يوم اصطلت نار الفتنة الكبرى، واكتوت بتبعاتها المدمرة؛ ثم أعلنت عن نفسها، وقد مست الحاجة إليها تبعا لتعقد الحياة ومفرداتها الطارئة ومساراتها المحدثة، حين أصبحت الفتوى بضاعة تشترى وتباع، وبات الفقه وسيلة للعيش وانتفاع؛ ثم غابت شمس الحضارة الزاهرة، وخيم ليل الانحطاط البهيم، فعمت البلوى بالحيل الفقهية، قبل أن تشكل نوازلها مرجعية للتائهين من المتأخرين.

في بلادنا السائبة، تأخر حضور مبادئ الإسلام وأحكامه وقيمه، كثيرا، قبل أن تتسلل بهدوء وعلى استحياء، ليعتنقها الآباء الأولون، ويتحركوا بها ولها، تحت ظل سلطانهم الناشئ؛ ثم ما لبثت شمس السلطان أن غربت، فانتفى بغروبها الأمان، وتقلبت بالناس بعدها صروف الزمان والمكان؛ ثم أذن الله بالتفاعلات التاريخية التي أنتجت النهضة العربية الأولى، في هذه الربوع، ونجمت عنها حالة التراتبية الاجتماعية السائدة، وفيها بات للقيم الدينية والثقافية، أهل دون الناس، اتخذوها تروسا، وأتقنوا فن تطبيع الحياة بمقتضاها..

في مراحل الانحطاط وليله الدامس، على ربوع السائبة الموريتانية المترامية، حيث يفتقد الأمان وتسود الحروب والغارات والسلب والنهب والمظالم، كلما جف الضرع وقل الزرع، وابتلغت الأرض ماءها واقلعت السماء، كان للناس- من كل الفئات والطبقات- طرائق شتى في فن البقاء على قيد الحياة، وكان من الطبيعي أن يستعمل من لا يملك سلاحا غير الفقه والنوازل، حيلا بلبوس فقهي، من شانها التأثير في الموازين المختلة؛ وهكذا كان للحيل الفقهية حضور بارز في كل شئون المجتمع، أموالا كانت، أم أنسابا، أم زواجا وإنجابا، أم عتقا وولاء، أم بيعا وشراء.

في العصور المتأخرة، تلاحقت إكراهات في الحياة لاعهد للناس بها، ولا اثر لها في النوازل التي بين ايديهم؛ إكراهات حركتها مغانم ومغارم المنتجعات والمياه والزروع؛ ودفعت بها التجارات والمبادلات مع الأجانب المخالفين في الدين، عبر البر والبحر والنهر؛ وفرضت بعضها الحروب والاغتيالات وتوارث عروش الأمراء؛ ثم كان نصيب منها بسبب حالة السيبة وغزوات السلب والنهب؛ قبل أن يواجه المجتمع نازلة التغلغل الاستعماري، وجدلية المسالمة والمقاومة؛ فكان اللجأ في كل ذلك إلى الفقهاء وحيلهم الفقهية المبتكرة.

بعد إحكام المستعمر الفرنسي سيطرته الكاملة على التراب الموريتاني، حيث دانت له القبائل والمجموعات بالولاء، بمن فيهم أبناء وأحفاد قادة المقاومة، وقدموا العشور طيبة بها نفوسهمن بناء على الفتاوى، لم تتوقف الإكراهات؛ فقد نظر المجتمع بعين الريبة إلى الاستكتاب في وظائف وأشغال المستعمر، وفي تلقي رواتب منه، وفي حمل سلاحه، ثم كانت المدرسة الفرنسية إكراها صاعقا، تلته الأحزاب السياسية وانتخابات ممثل البلاد في البرلمان الفرنسي، وانعكاسات الحربين العالميتين؛ فكان اللجأ في كل ذلك إلى الفقهاء وحيلهم.

استفتاء لا نعم (OUI-NON) الذي مثل أحد أبرز إرهاصات الاستقلال عن المستعمر، والموقف السليم منه، انتخاب المجلس الإقليمي، وحكومة الاستقلال الذاتي، وبناء العاصمة نواكشوط، وزيارة ديغول، وحديث المقاومة السياسية المتجدد، وحزب النهضة المحظور والهجرات المتلاحقة لقياداته نحو المغرب؛ ثم إعلان الاستقلال الوطني، ومعركة الاعتراف الدولي، وبرامج الإذاعة، وإقامة الجمعة، وقضايا التعليم والقضاء وحضور المرأة؛ هي عناوين شكلت الحيل الفقهية تراثا زاخرا للتعاطي معها سلبا أو إيجابا.

بشأن حرب الصحراء تنقلت المواقف وتغيرت بانتقال السلطة القائمة، وخلقت الانقلابات المتلاحقة ذرائع لفتاوى متشاكسة، تناولت إلغاء الرق ومترتباته، وإقامة بعض الحدود وإلغاءها، والفتنة الداخلية والنزاعات العرقية والتهجير القسري والغرم الإنساني وفتاوى الانقلابات ومحاولاتها؛ لتأتي الديمقراطية الزائفة الكسيحة التي ندخل إحدى مخاضاتها اليوم، فتتربع الحيل الفقهية على عروشها، ويروج، بشكل غير مسبوق، بيع الدين بأبخس الأثمان، وكتابة الفتاوى بالهوى، وتطويع فقه المجتمعات المنقرضة للميول والمصالح، ونسبة ذلك كله إلى الله!!

 

23. مارس 2019 - 10:34

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا