رابعة والضيافة والأدلجة / محمد عبد الله ولد لحبيب

altسال مداد كثير بشأن زيارة وفد النظام المصري إلى موريتانيا. اختلطت في الدعاية بالتحريض، واستسهلت صياغة الحجج بدون التفات إلى منطق. وكأن من يتحدثون يتحدثون ليتحدثوا فقط لا ليقنعوا أحد أو يشاركوا في نقاش. حديث الإنسان لنفسه، وأمام من لا يعنيهم من الأمر شيء، والإدلاء برأي في نقاش (بغض النظر عن علميته، وعقلانيته) شيء آخر.

حديث الصفحات الاجتماعية ليس حديث نفس، يا عباد الله. وليس حديثا إلى معجبين بالضرورة. إنه أصبح جزءً من نقاش أحب صاحبه أم كره. مِن احترام عقول الناس، الذي هو علامة احترام المرء لعقله، ألا يقول ما لا حجة عليه. تمحُّل حجج واهية هو ذاته انعدام الحجة. الانخراط في أي نقاش يعني القبول المبدئي بالحد الأدنى هذا.

  إن رفض الاحتجاج على قدوم الضيف بالمنطق الاجتماعي أمر مفهوم ومقبول، لكنه عوارُ خطابٍ بالمنطق السياسي ومنطق المغالبة الذي تعيشه الشعوب.

التعاطي مع الأمر العام بـ"أدبيات الخطار" خطل. ينبري من يقول إكرام الضيف قيمة متجاوِزة، مطلقة تلزم كل أحد (من المعنيين بها) لكل أحد في كل مكان وزمان. هذا صحيح أيضا.

نحتاج هنا إلى توضيح جديد: إكرام الضيف لا يعني الترحيب به دائما. كان الأوس والخزرج يقاتلون تُبَّعًا بالنهار ويقرونه بالليل. هاجى شعراءُ قَيْلَةَ الشعراء في الجاهلية والإسلامية ولم يجدوا في تعاملهم مع الضيفان مطعنا. هذا النموذج هو الذي نحتاجه عندما يلتبس الموقف.

ثم من قال إن من يحتجون يحتجون على الضيف فقط؟. إن هذا الاحتجاج موجه بالأساس إلى المضيف فهو المسؤول أمامنا. وهو احتجاج مزدوج؛ يرفض أي علاقة مع نظام غير شرعي جاء بانقلاب عسكري، وأَدَ تجربة ديمقراطية كان ينتظر أن تفضي إلى تمدد الحرية وسريانها في كل الجسم العربي.

ويُذكِّر انقلابيينا برفض استمرارهم، لأنهم من طينة المغتصبين. إنه موجه إلى الداخل أيضا. سيجد من يرحبون بهذا الضيف أنفسهم لا محالة إلى جانب من يرفضونهم داخليا، على الأقل فيما يعلنون من مواقف.

أفرق بين الاحتجاج على أنشطة الوفد في السفارة المصرية والمركز  المصري، والاحتجاج في الفضاءات الموريتانية الخالصة؛ الأولان برأيي أرض مصرية، ينبغي أن يقتصر الاحتجاج فيها على المصريين، كما لا نسافر  إلى القاهرة لنحتج مع رافضي الانقلاب العسكري.

ثم تأتي حجة أن المركز المصري ذو دَيْنٍ في أعناق نخبة البلد من ذوي الثقافة العربية الإسلامية. وهو مرة أخرى أمر مسلم به، وبلوغه الخمسين مناسبة للفرح والسرور، نهنئه بها وندعوه إلى مزيد من العطاء. وحرصنا على مصر وعلى عطاء مركزها الثقافي والحضاري هو ما يدفعنا إلى الاحتجاج لا لنحول بين المصريين وفرحتهم، ولكن لنعلن أن ما نطمح إليه لمصر أكبر من مجرد احتفال بمناسبة خمسينية المركز.

من يقرأ أحاديث بعض الأصدقاء يحسب أن المحتجين وقفوا مطالبين بإغلاق المركز المصري أو طرد السفير المصري، أو قطع العلاقة مع الدولة المصرية.

إنها سياسة "القفز الحواري" تُقَوِّلُ الناس ما لم يقولوا ثم تقضي في غياب المتهمين والمحامين والشهود وهيئة المحكمة. تصفق لنفسك، وخمسةُ معجبين معك في الصفحة، ثم تكتب على الشارة التي تضع على صدرك: العدل أساس الملك!.

لم يزد الشباب أمس على أن رفعوا شعارا سياسيا وإنسانيا أضحى رمزا لمأساة معينة، تستضيف الدولة الموريتانية اليوم المسؤولين عنها.

إن من أساؤوا إلى مقام مصر ودورها التاريخي هم من اختزلوها في نظام انقلابي دموي غيبها عن المحافل الدولية، وحكَّم فيها أُغَيلمة، وحفنة أميين أغبياء، دخلوا تاريخ المدينة (وليس تاريخ المدنية لأنهم لن يعرفوا إليه طريقا) أمس بفضل طفرة لم يجلبوا عليها بخيل ولا رجل. باعوا خمسة آلاف سنة من تقاليد الحكم مقابل حفنة دولارات مغموسة في المنِّ والأذى وخيانة الأمانة، إدامها دم الأبرياء.

إن من يسيؤون إلى مصر وتاريخها وحاضرها وعلاقتها بموريتانيا هم من يدافعون عن الجلادين ضيوفا ومضيفين، ويقفون في وجه التضامن الإنساني مع ضحايا المأساة التي تشهدها أرض الكنانة اليوم على أيدي قتلة يستبيحون الأعراض والقيم والمكانة.

عادت (ولم تكن قد غابت بعيدا) معزوفة "الأجندات الخارجية" و"الأدلجة" و"غياب الوطنية" في خلط غير موفق همه إعطاء شحنة سلبية لبعض المفاهيم. كأن الوطنية تعني أن تشجع المنتخب وتنتفض عند ذكر إحدى مآسي الوطن مستكبرا بعزة عصبية خلفتها القبيلة وراءها منذ أحقاب مضت.

إن الأيديولجيا تعني في أبسط تجلياتها الواقعيةِ أن تمتلك نسقا تنظر من خلاله إلى الأحداث في مقابل  تكنوقراطية التلون التي يلبس بها "مثقفونا" جلد حرباء يتلون بأمنيات أرباب الأشجار المختلفة التي يُسمح لهم بتفيئ ظلالها كل ذات حالة اختطاف سلطة أو مشروع.

وهل بَنَى الأوطانَ غير أصحاب الأيديولوجيا؟ (لا تحتمل المساحة نقاشا معرفيا للمفهوم، لذا تكفي الإشارات الحجاجية هنا). إن التاريخ الوطني يحدثنا أن التيارات الفكرية بمختلف مشاربها هي التي وضعت اللبنات الأولى للاستقلال، وهي التي أسست نواة الحركة الوطنية، وهي التي ناضلت لتوسيع دائرة الفعل الوطني منذ اليوم الأول إلى غد. جيل يسلم الراية لجيل، وحركة تهدي عصارة تجاربها لأخرى، وظلت دماء المؤدلجين ونضالاتهم توفر أرائك يتقلب فيها "المستقلون"، وإضافات في الرواتب يزيدون بها مقروءاتهم من شعر الغزل، وقصص المنحوتات.

فلما ابتلينا بالفيس بوك وبرامج "منزوع الدسم" في التلفزيونات أصبحت الأيديولوجيا جريمة مساوية لمناهضة الوطن!!.

إن الاستقلالية لا تعني أن تميل مع الرياح، وليست دعوى تسطرها إحدى يديك في حين تتحسس بطنك بالأخرى تتفقد مهاوي أعطيات كبراء القوم، وعلاوات مؤسسات الريع التي تهديك أموالا من دماء الفقراء لأنك تنتج لها الكذب الصراح، وتعيده حتى تصدقه. مهلا على رسلك. ليست الاستقلالية زعاقا أيام الرخاء، ونقدا حريريا، وابتلاع اللسان ساعة قهر مستضعف. إن الاستقلالية موقف مع الحقيقة، وعدل مع الناس، وصدع بكلمة الحق.

إن الاختلاف في الرأي حول ما قام به بعض شباب موريتانيا أمس أمر مشروع ومطلوب، والاختلاف في تفاصيل ما يجري في مصر، بل وفيه من حيث المبدأ، شيء يمكن تفهمه والسكوت عنه (لا عليه). لكن تحويل الاختلاف إلى تخوين والتحول إلى اتهام النيات بدل نقاش الأفعال، لا يخدم وطنا ولا يبني ثقافة حوار.

11. فبراير 2014 - 23:20

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا